وهذا الإطلاق إنّما يناسب بالنّسبة الى ما شكّ في تحريمه أو وجوبه ، لأنّ اشتغال الذّمة لا يكون إلّا بالتكليف ، والتكليف منحصر فيهما ، فالتمسّك بأصل البراءة بهذا المعنى إنّما يصحّ في مقابل دعوى الحرمة أو الوجوب.
والثاني : أنّ القاعدة المستفادة من العقل والنقل أن لا تكليف إلّا بعد البيان أو وصول البيان إلينا بعد الفحص والطّلب بقدر الوسع فيما يحتمل فيه الحكم المخالف للأصل ، للزوم التكليف بما لا يطاق لولاه.
والثالث : أنّ الرّاجح عند العقل براءة الذّمة إن جعلنا الرّاجح من معانى الأصل ، أعمّ من المتيقّن والمظنون ، ولكنّ الأصوليّين جعلوا كلّ واحد من المعنيين الأوّلين أصلا برأسه ، ودليلا على حدة ، وأصالة البراءة دليلا ثالثا.
والأوّل : هو ما يسمّونه استصحاب النّفي ، واستصحاب حال العقل ، وسيجيء الكلام فيه.
والثاني : هو الأصل المتّفق عليه المعروف بينهم من أنّ عدم الدّليل دليل على العدم ، فجعل أصالة البراءة قسما على حدة مشكل.
نعم ، هو نوع خاصّ من هذا الأصل ، كما أنّ الأصل الآخر المعروف بينهم من نفي الأكثر عند تردّد الأمر بينه وبين الأقلّ نوع من أصل البراءة ، وذلك لأنّ هذا الأصل يجري في جميع الأحكام الشرعيّة ، وأصل البراءة مختصّ بقسمين منها.
ويمكن الفرق بنحو آخر ، وهو أن يقال : إنّ ذلك الأصل ناظر الى إثبات الأحكام الشرعيّة ونفيها للموضوعات العامّة من حيث إنّها أحكام شرعيّة ، وهي ناظرة الى تعلّقها بخصوص ذمّة آحاد المكلّفين.
والحاصل ، أنّ نفس البراءة الثّابتة لا يمكن أن تصير من الأدلّة الشرعيّة ، بمعنى أن تثبت حكما شرعيا ، فينسب عدم الوجوب أو عدم الحرمة من جهتها الى