وكيف كان ، فأصل البراءة بالمعنيين اللّذين ذكرناهما (١) ، يمكن جعله موضوعا للمسألة التي نحن على صدد بيانها.
والحقّ ، أنّه بالمعنيين حجّة شرعيّة ، ومقتضاه نفي التكليف ورفع الحكم المشكوك فيه ، وهو مختار أكثر العلماء.
وذهب جماعة الى التوقّف ولزوم الاحتياط.
ثم إنّ الاستدلال بأصل البراءة إمّا فيما يستقلّ العقل بالحكم بإباحته قبل وصول الشّرع كشمّ الورد وأكل الفاكهة أو لا.
والثاني : إمّا ورد فيه نصّان متعارضان ، أو لم يرد فيه نصّ أصلا.
فالإباحة في القسم الأوّل إنّما يثبت بالعقل. وفائدة التمسّك بأصل البراءة نفي منع الشّارع ما لم يثبت المنع بدليل يقطع العذر ، إذ قد بيّنا فيما سبق أنّ حكم العقل بالإباحة لا ينافي أن يكون في ذلك الشّيء مفسدة كامنة لا يظهر إلّا ببيان الشّرع ، وأنّ احتمال ذلك لا يضرّ فلا بدّ لمن يدّعيه من إثباته ، فالتمسّك بأصل البراءة حقيقة إنّما هو لأجل نفي ذلك ، لا لإثبات الإباحة العقليّة.
وأمّا ما لا يستقلّ العقل بالحكم بإباحته ، كالتكفير حال الصلاة مثلا ، وعدم وضع الأنف على الأرض حال السّجود ؛ فأصل البراءة تنفي الحرمة في الأوّل لو لم يثبت النصّ عليها ، والوجوب في الثاني. فيبقى الفعل في الأوّل والترك في الثاني مسكوتا عنه عند العقل ، لأنّهما ليسا كشمّ الورد وأكل الفاكهة ، ولكن يلزمه
__________________
ـ الأصول وقد ذكر جملة منها في «الوافية» فراجعها.
(١) وهما استصحاب البراءة السّابقة ، والقاعدة المستفادة من العقل والنّقل أن لا تكليف إلّا بعد البيان.