ويظهر عنده هذا الحسن والقبح في المواد المختلفة على مراتبهما المرتّبة فيها بحسب نفس الأمر ، فقد يدرك في شيء حسنا لا يرضى بتركه ويحكم بلزوم الإتيان به ، وفي بعضها قبحا يحكم بلزوم تركه. وقد يجوز الترك في بعضها والفعل في بعضها ، وهكذا.
فكذلك من الواضح أنّه يدرك أنّ بعض هذه الأفعال مما لا يرضى الله بتركه ويريده من عباده بعنوان اللّزوم ، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه بعنوان اللّزوم ، وأنها مما يستحق بها عن الله المجازاة إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. ولازم ذلك (١) أنّه تعالى طلب منّا الفعل والتّرك بلسان العقل.
فكما أنّ الرّسول الظّاهر يبيّن أحكام الله ومأموراته ومنهيّاته ، فكذلك العقل (٢) يبيّن بعضها ، فمن حكم عقله بوجود المبدئ الحكيم القادر العدل الصّانع العالم ، فيحكم بأنّه يجازي العبد القويّ بسبب ظلمه على العبد الضعيف بالعقاب.
وكذلك الودعي الذي ائتمنه عبد من عباده ، سيّما إذا كان العبد محتاجا غاية الاحتياج بسبب ترك ردّها إليه ، ويجازي العبد القويّ الرّفيع برأفته على العبد الضعيف العاجز المحتاج بالثواب. فلو لم يكن نهانا عن الظّلم وأمرنا بردّ الوديعة ،
__________________
(١) بعد ما عرفت من معنى الملازمة.
(٢) في الرواية كما في «الكافي» كتاب العقل والجهل عن الامام الكاظم عليهالسلام في مواعظ منه لهشام أنّه قال : إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرّسل والأنبياء والأئمة عليهمالسلام ، وأمّا الباطنة فالعقول. كما في الحديث ١٢ ، وفي الحديث ٣٤ عن أبي عبد الله عليهالسلام : ... واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره ، وبأنّ له ولهم خالقا ومدبّرا لم يزل ولا يزول وعرفوا به الحسن من القبيح وأنّ الظّلمة في الجهل وانّ النور في العلم ، فهذا ما دلّهم عليه العقل.