الوجودات هو تلك الموجودات ، إلّا أنه بنوع ونوع .
وإنّما أوردت هذا الكلام كلّه ، لأنّه مع انطوائه بما نحن بصدده ، مشتمل أيضاً على تحقيق معنى الحقيقة ، ومعنى الصدق والحق وسبب تسمية هذا الوجود بالوجود الحقيقي وغيره من اللطائف فليتأمل (٢٠) .
أقول : في هذه العبارات المنيفة السامية لطائف عديدة ، ونكات سديدة ، حريّ بباغي المعارف الإلهية أن يعتني بها ويهتمّ بنيلها :
منها : إنّ العالم الأعلى هو متن ما دونها وقضائها ، ولا يوجد رقيقة في الداني ، إلّا وهي مستكنة فيه على نحو وجود أحديّ ، فالرقائق صنم ، واُنموذج لذلك العالم الأعلى ، فالحقيقة لا تنزل الى العالم الأدنى الحسّي إلّا وهي نازلة من جميع العوالم ، قال عزّ من قائل : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ » (٢١) ، وقال سبحانه : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّو » (٢٢) .
فكل ما هو حق وصدق من المعاني والصور ، فهو مطابق ـ بالكسر ـ لما هو متحقّق في العالم الأعلى ، أي فله مطابَق ـ بالفتح ـ وخزائن ، واما ما ليس بحق وصدق كالصور المختلقة التي هي مخترعات الوهم ودعابات الخيال ، والإعتباريات المحضة من النسب والإضافات غير الحقيقية ، فليس لها مطابَق ـ بالفتح ـ أصلاً ، لأنّ الباطل لا يتطرق في صنع الحق ، مثلاً ، لو فرض الوهم غلطاً أنّ الثلاثة نصف العشرة أو الهواء أثقل من الأرض وأصلب منها ونحوهما من الأكاذيب ، فهي عارية عن أن يكون لها نفس الأمر ، وبمعزل عنه . فنفس الأمر هو حقيقة الأمر ، أي حقيقة الشيء في النظام العنائي الحقيقي ، وتصور أنّ الثلاثة نصف العشرة ليس أمراً حقاً ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ الثلاثة في نفس الأمر أي في نفسها وذاتها نصف العشرة ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ للكواذب مطابَق ـ بالفتح ـ فما هو باطل في موطن ، وليس فرض تحقّقه في ذلك الموطن بحق ، فهو عارٍ عن تلبّس خلعة الوجود الحقيقي في جميع المواطن ، فالكواذب مطلقاً ليس لها
____________________________
(٢٠) إنتهى كلام صاحب التمهيد : ١٦ الطبعة الاُولى .
(٢١) الحجر : ٢١ .
(٢٢) السجدة : ٥ .