فيما يتكلمون به ، حتى إذا ألفوا حركة ألسنتهم ونطق أصواتهم ، وترسخت في أذهانهم طريقتهم في صياغة الأسماء والأفعال والأوصاف ، وفي التذكير والتأنيث وتأليف الجمل وأساليبها ، نراهم يعودون إلى هذا المخزون الذي ألفوه فيركبون جملا من مفردات لعل آباءهم لم يسمعوا بها من قبل ، وتكون جملهم الجديدة صحيحة في العادة ، وما ذلك إلا نتيجة (عملية قياسية) عفوية.
فالقياس إذن أقرب إلى واقع اللغة منه إلى واقع الشريعة.
ولكن الذي يؤخذ على النحاة أنهم لم يبذلوا جهدا في تأصيل هذا القياس ، بل في أصولهم النحوية عموما ، كما بذل الفقهاء جهدهم في تأصيل قياسهم وأصولهم الفقهية.
ونظرة تاريخية لما حدث من تطور في تأصيل القياس عند الطرفين ، نجد أنه حين نشأ عند الفقهاء في أوائل القرن الثاني ، واختلفت مدارسهم في طريقة الأخذ به ، واضطرب كثيرا بين العراقيين وأهل المدينة ، فاختلط ب (الرأي) حينا ، و (بالاستحسان) و (المصلحة المرسلة) حينا آخر ، وبقي على هذا الاضطراب ، واختلاف المدارس في تطبيقه ، من وفاة إبراهيم النخعي ، رأس مدرسة الرأي بالكوفة (ـ ٩٥ ه) إلى وفاة محمد بن الحسن (ـ ١٨٩ ه) تلميذ أبي حنيفة. في آخر هذه الفترة جاء دور الإمام الشافعي (ـ ٢٠٤ ه) ، وهو نتاج المدرستين معا ، فنقد فقه العراقيين بنفس القوة التي نقد بها فقه أهل المدينة ، ووضع حدا لاضطراب القياس في الفترة السابقة ، وشاعت (رسالته) التي بعثه إلى عبد الرحمن بن مهدي (ـ ١٩٨ ه) وفيها خطته في أصول الفقه والاعتماد على القياس فقط ، وألف كتبه المعروفة في : (إبطال الاستحسان) و (اختلاف العراقيين) و (الرد على محمد بن الحسن) و (اختلاف مالك والشافعي) و (جماع العلم) و (اختلاف الحديث) وكلها وصلتنا في كتاب (الأم) ، وكان من الطبيعي أن يدافع فقهاء الحنفية والمالكية عن مناهج أئمتهم وأصولهم الفقهية ، فبدأ الأحناف في استخراج أصولهم مما تفرق في كتب أبي يوسف ومحمد ابن الحسن ، كما بدأ المالكية يجمعونها من أصول إمامهم في (الموطأ) وما روي عنه