فيها على (المشابهة) بين الحادثتين ، ومن يقرأ (رسالة) الشافعي ـ وهي أقدم تدوين منظم لأصول الفقه ـ يجد القياس عنده : مرادفا للاجتهاد (٤٠) ، وليس واحد من مجالاته ، ولا يجد فيها ما نجده في أصول الفقه المتأخرة ، من أركان القياس وشرائطها ، ومسالك العلة وقوادحها ، وأمثال ذلك من دقة اقتضاها تطور الفقه الإسلامي.
ولا يبعد أن النحاة ـ في هذا العصر المتقارب ـ لم يأخذوا نفس القياس الذي كان يستعمله الفقهاء ، وإنما تأثروا ، جميعا ، بما جد في الحياة العقلية للمسلمين يومئذ في جميع فروع المعرفة ، فأخذ كل منهما عن مصدر ثالث ، وبخاصة إذا تذكرنا أن حلقات الدرس في مساجد البصرة والكوفة لا تبعد كثيرا عن بعضها ، فالمسجد الواحد يحتوي حلقات مختلفة ، للحديث ، والفقه ، والتفسير ، وعلم الكلام ، والقراءة ، والنحو ، وأن بعض الطلاب في بداية نشأته ينتقل عادة بين جل هذه الحلقات ، فيأخذ عن شيوخها طريقة أدائهم وأسلوب تفكيرهم ، وتنطبع في ذهنه بعض مصطلحاتهم ، ولكنه إذا تخصص بعد ذلك وانصرف بجهده لواحدة من هذه الحلقات ، ثم جاء دوره ليكون هو شيخ الحلقة ، ظهر تأثير جولته تلك ، على أسلوبه وطريقة تفكيره ، وبعض مصطلحاته.
ولا أدري لم يصر بعضهم على أن النحاة ، في هذه الفترة ، أخذوا القياس عن الفقهاء ، والقياس في اللغة أكثر طبيعة منه في الشريعة؟! ثم لم يصح للفقيه أن يحمل (الفقاع) المأخوذ من الشعير على (الخمر) فيحكم (بحرمته) لأنه يجد في شاربه ما يعتري شارب الخمر من (سكر) ، ولا يصح للنحوي أن يحمل (طاب الخشكنان) الذي لم تعرفه العرب ، ولم تنطق به ، على (طابق السويق) فيعطيه نفس الحركات ، لأنه يجد فيه نفس الإسناد؟! وما لنا نذهب بعيدا ، ونحن نجد القياس أمرا طبيعيا حتى عند الأطفال حين يتعلمون لغة آبائهم ، فهم إذ يسمعون آباءهم ، يحاولون أول الأمر أن يحاكوهم
__________________
(٤٠) الرسالة : ٤٧٧.