ولا أظن أن هناك فقيها لا يبيح الجمع في أول الوقت في مثل تلك الأحوال ، وإن أوجبوا التأخير حينئذ فإن ذلك مما يأباه الله ورسوله والمؤمنون ، ومن خرج عن الكتاب والسنة رد إليها راغما.
ومما يرشدك أيضا إلى أن الجمع المذكور في تلك الأحاديث هو الجمع الحقيقي بإتيان إحدى الصلاتين في وقت الأخرى تقديما أو تأخيرا : ما فهمه بعض أهل العلم ـ ممن رد حديث ابن عباس في الجمع كما سيأتي في كلام الترمذي ـ من معنى الجمع في الحديث ، فلو كان المراد به الجمع الصوري لما كان وجه لرد الحديث ، لأن جوازه مفروغ منه ، لكنما رده ذلك البعض لمخالفة مدلوله لمذهبه ، لكون الجمع الحقيقي هو المتبادر منه هنا.
وبالجملة : فإنه يتعين حمل الجمع في الحضر ـ المذكور في أحاديث الباب ـ على ما فهموه من جمع السفر والموطنين عرفة والمزدلفة ، أعني الجمع الحقيقي دون الصوري ، لأنه المنسبق منه إلى الذهن عند الاطلاق ـ بلا قرينة ـ ولعدم الصارف عن ذلك ـ كما تقدم بيانه آنفا ـ.
وحيث أسفر لك الحق إسفار الصبح لذي عينين بأن جمع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمدينة لم يكن لعذر من الأعذار البتة ، خلافا لما يزعمه العامة ، نصرة لمذهبهم ، وتقليدا لأئمتهم ، وتعصبا بغير حق.
فكتاب الله تعالى وسنة رسوله المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم أحق أن يتبعا ، وأحرى أن يقتفيا ، إذ كل يؤخذ من قوله ويرد حاشا من عصمه الله تعالى.
هذا ، وقد ذهب جماعة من الأئمة والفقهاء من أهل السنة والجماعة وغيرهم إلى ما ذهب إليه أصحابنا الإمامية ـ أعلى الله كلمتهم ـ من جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر مطلقا فضلا عن السفر ، انقيادا للدليل وبخوعا للحجة ، إلا أن بعضهم اشترط فيه عدم اتخاذه خلقا وعادة!!
قال شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني في (فتح