وقد تبيّن لدينا في تفسير الآية أن هذه الأصول ثلاث :
أخذ بالعفو : أي المعاملة باللين ، والبيان باللطف ، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتّكليف ، ويشمل ترك التّشدّد في كلّ ما يتعلّق بالحقوق المالية ، والتّخلّق مع الناس بالخلق الطّيّب ، وترك الغلظة والفظاظة ، والدّعوة إلى الدّين الحقّ بالرّفق واللّطف. وهذا النّوع من الحقوق مما يقبل التّساهل والتّسامح فيه.
وأمر بالمعروف : وهو كلّ ما عرف شرعا وعقلا وعادة من جميل الأفعال وألوان الخير. وهذا النّوع من الحقوق لا يقبل التّسامح والتّساهل. ويشمل كل ما أمر به الشرع ، وكل ما نهى عنه من الأقوال والأفعال. والمأمورات والمنهيّات معروف حكمها ، مستقرّ في الشّريعة موضعها ، والقلوب متّفقة على العلم بها. والفرد والجماعة مطالبان بمقتضى هذا الأمر ، والإعلان الدّائم عن المعروف والأمر به ، والنّهي عن المنكر وإخفائه.
وإعراض عن الجاهلين : وهم السّفهاء ، ففي أثناء الأمر بالمعروف والتّرغيب فيه ، والنّهي عن المنكر والتّنفير منه ، ربّما أقدم بعض الجاهلين على السّفاهة والإيذاء ، فيكون الإعراض عنهم هو المتعيّن ، اتّقاء لشرّهم ، وصيانة للدّاعية عن أذاهم ، ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وذلك يتناول جانب الصّفح بالصّبر.
وهذه الأوامر الخلقية الثلاث ، وإن كان الخطاب فيها من الله لنبيّه عليه الصّلاة والسّلام ، فهو تأديب لجميع خلقه.
والصحيح ـ كما ذكر المفسرون مثل القرطبي والرازي وابن كثير وغيرهم ـ أن هذا الآية محكمة غير منسوخة ، كما قال مجاهد وقتادة ، بدليل ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، كهولا كانوا أو شبّانا ، فقال عيينة لابن أخيه :