فيعرض آراء الخصوم ويشرح حججهم ، ثم يثنّى بالرد عليها مستعينا بمنطقه غالبا ، ومفيدا أحيانا من بعض الملاحظات والتجارب. وجد له ضرب من التحليل اللفظى أو المنطقى الذي كان يعد فى الماضى رياضة ذهنية ، قد لا نستسيغها نحن اليوم كثيرا. ولا غضاضة عليه فى أن يتوقف إزاء ما لم يطمئن إليه أو ما لم يفهمه. ومن العسير أن نعتبر أقواله مصدرا تاريخيا ، لأنه لا يتحدث عن مدارس محددة ، ويكتفى بأن يسرد الرأى ، دون أن يعزوه إلى صاحبه ، وخلال مناقشات طويلة تتبعها فى نحو خمسة فصول لم يذكر اسما واحدا من الفلاسفة السابقين لسقراط. وهو فى تأريخه على كل حال عالة على أرسطو ، يأخذ عنه ويحاكى حواره ، وقد يتوسع فيه بعض الشىء.
وسيرا على سنة المعلم الأول يحدد ابن سينا فى الفصل الأول موضوع كتابه ، وهو ممن يؤمنون بالتغير ؛ ويرى أن عالم الأرض فى تغير مستمر بعكس عالم السماء ، وليس تغيره إلا كونا وفسادا ، أو بعبارة أخرى وجودا وعدما. والقائلون بالتغير كثيرون ، ويمكن ردهم إلى فريقين : أنصار الوحدة ، وأنصار التعدد. فيذهب الأول إلى تفسير التغير فى ضوء عنصر واحد كالماء أو الهواء ، ويذهب الأخيرون إلى تفسيره فى ضوء أكثر من عنصر (١).
ويستعرض ابن سينا هذه المذاهب ، ويقف بوجه خاص عند مذهب الذرة وفكرة الكمون ، فيفندها تفنيدا تاما (٢) ، ولعله كان يصوب إلى بعض أنصارهما من مفكرى الإسلام (٣). ويحلل نظرية المحبة والغلبة التي قال بها أنبادوقليس ، ويبين ما فيها من من نقص (٤). وهو مع هذا يؤيد فكرة العناصر الأربعة ، ويجهد نفسه فى دعمها ، ويستشهد بملاحظات وتجارب تثبت تحول بعضها إلى بعض (٥). وعنده أن الأسطقسات أجسام بسيطة تتكون منها الأجسام المركبة ، وهى متعددة ومتناهية (٦). ويفتن فى بيان أنها أربعة لا تزيد ولا تنقص ، وإن عز عليه إثبات ذلك.
ويحاول تفسير الكون مفرقا بينه وبين الاستحالة من جانب ، وبينه وبين النمو من جانب آخر. فالكون تحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى ، فى حين أن الاستحالة تغير فى الكيفية مع بقاء أساس ثابت ؛ ففيها موضوع محسوس تطرأ عليه صفات جديدة ، بينما
__________________
(١) ابن سينا ، الكون والفساد ، القاهرة ١٩٦٨ ، ص ٧٧ ـ ٨٥.
(٢) المصدر السابق ، ٨٩ ـ ٩٤ ، ١٠١ ـ ١١١ ، ١١٢ ـ ١٢١.
(٣) المصدر السابق ، ص (ط)
(٤) المصدر السابق ، ص ١١٢ ـ ١١٣.
(٥) المصدر السابق ، ص ١٢٢ ـ ١٢٤. (٦) المصدر السابق ، ص ١٤٧.