إلى المقالة الرابعة وجزء من الثالثة من «كتاب الآثار العلوية» الأرسطي ، وكأنما شاء ابن سينا أن يقسم موضوع هذا الكتاب قسمين واضحين ، ينصب أحدهما على بعض الخواص الطبيعية الأرضية ، وسماه «الأفعال والانفعالات» ، وينصب الآخر على ما يتكون فى باطن الأرض أو ما يحدث من ظواهر طبيعية بين السماء والأرض كالسحاب والرياح ، وسماه «المعادن والآثار العلوية» ، ووقف عليه الفن الخامس من طبيعيات الشفاء.
ويتحدث ابن سينا عن ملوحة ماء البحر ووزنه النوعى ، مبينا أنه أثقل من ماء النهر. والماء فى طبيعته العنصرية حلو ، وإنما يكتسب الملوحة من اختلاطه بجسم آخر.
وملوحة البحار مستمدة من الطبقات الأرضية التي اتصلت بها ، بدليل أنا نستطيع أن نقطر ماءها ونرشحه فيصير عذبا (١). ويعيب على أنبادوقليس قوله أن ملوحة البحر بسبب أنه عرق الأرض ، لأن هذا كلام شعرى لا فلسفى ، وإن أمكن تأويله بأن هذه الملوحة شبيهة بالعرق الذي يستمد ملوحته من المواد المحترقة فى البدن (٢). ويلاحظ أن هناك أماكن انحسرت عنها مياه البحار كالنجف فى العراق ، وقد مثل أرسطو لهذا من قبل بدلتا مصر (٣).
ويفصل ابن سينا القول فى بعض مظاهر التغير المترتبة على الفعل والانفعال كالطبخ والقلى والنضج والنهوءة ، والتجميد والتفخم ، والتصعيد والذوب ، والعفونة والاحتراق (٤). وهى تفصيلات تبدو اليوم غير ذات بال ، إلا أنها تؤذن بأن ابن سينا كان يؤمن بالتطور.
فهو يرى مثلا أن الأشياء قد تستعد بالعفونة لقبول صورة أخرى ، فتتولد منها أشياء جديدة من حيوان أو نبات (٥). ويعود إلى المزج فيتحدث عن أثره فى الطعوم والروائح والمركبات ، وقد عرض له من قبل فى كتاب «الكون والفساد» (٦). ويعبر عنه هنا بلفظ فيه شىء من اللبس ، فيسميه المزاج ، مع أنه عرض للأمزجة طويلا فى «كتاب القانون» (٧).
هذه هى كتب ابن سينا الثلاثة ، وقد أفاد منها الطبيعيون المعاصرون ، أمثال ابن الهيثم (٤٣٠ ه) والبيرونى (٤٣٩) ، وتأثر بها الباحثون المتأخرون ، وكان لها شأن
__________________
(١) ابن سينا ، الأفعال والانفعالات ، ص ٢٠٦.
(٢) المصدر السابق ، ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.
(٣) المصدر السابق ، ص ٢٠٩ أرسطو ، الآثار العلوية ، طبعة بيروت ، ص ٤٧.
(٤) ابن سينا ، المصدر السابق ، ص ٢٢٣ ـ ٢٣٤.
(٥) المصدر السابق ، ص ٢٢٦.
(٦) ص ع.
(٧) ابن سينا ، القانون ، طبعة روما ، ص ٢ ـ ٥.