كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ). وقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ). وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات : (١)
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالإثْمدِ |
|
ونَامَ الخَلِىُّ ولَم تَرْقُدِ |
وبَاتَ وباتَتْ لهُ لَيْلةٌ |
|
كلَيْلةِ ذِى العائرِ الأرْمَدِ |
وذلِكَ مِنْ نَبَإ جَاءَنى |
|
وخُبِّرْتُهُ عن أَبى الأَسْوَدِ (٢) |
وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ، وقد تختص مواقعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات ، فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، لا نعبد غيرك ولا نستعينه ، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. فإن قلت : لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟ قلت : ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته. فإن قلت : فلم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ (٣) قلت : لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة
__________________
(١) قال محمود رحمه الله : «وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات ... الخ». قال أحمد رحمه الله : يعنى أنه ابتدأ بالخطاب ثم التفت إلى الغيبة ، ثم إلى التكلم وعلى هذا فهما التفاتان لا غير ، وإنما أراد الزمخشري والله أعلم أنه أتى بثلاثة أساليب : خطاب لحاضر ، وغائب ، ولنفسه ، فوهم بقوله ثلاث التفاتات ، أو تجعل الأخير ملتفتا التفاتين عن الثاني وعن الأول فيكون ثلاثا ، والأمر فيه سهل.
(٢) لامرئ القيس بن حجر الجاهلى ، وقال ابن هشام : هو غلط ، وقائله امرؤ القيس بن عابس الصحابي ، وقيل لعمرو بن معديكرب ، والأثمد كأحمد ، وقد تضم ميمه ، وقد يروى بكسرها : اسم موضع ، والعائر اسم جامد يطلق على قذى تدمع منه العين ، وعلى الرمد ، وعلى كل ما أعل العين ، وفي الشعر ثلاث التفاتات ، لكن الأول على مذهب السكاكي فقط : وهو أنه كان الظاهر التعبد بطريق التكلم فالتفت إلى الخطاب وذلك في البيت الأول.
والثاني : عدوله عن الخطاب إلى الغيبة في الثاني. والثالث : التفاته عن الغيبة إلى التكلم في الثالث. والجمهور يجعلون الأول من قبيل التجريد. وأبو الأسود : كنية صاحب الشاعر الذي يرثيه ، وقيل هو المخبر واسمه ظالم بن عمرو وهو عم امرئ القيس. وقيل أبى مضاف لياء المتكلم والأسود صفته ، ويروى : عن بنى الأسود.
(٣) قال محمود رحمه الله : «فان قلت لم قدمت العبادة على الاستعانة ... الخ». قال أحمد : معتقد أهل السنة أن العبد لا يستوجب على ربه جزاء ـ تعالى الله عن ذلك ـ والثواب عندنا ـ من الاعانة في الدنيا على العبادة ومن صنوف النعيم في الآخرة ـ ليس بواجب على الله تعالى ، بل فضل منه وإحسان. وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسلام قال : ـ