على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق في قوله الحمد لله ـ دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
(إيا) ضمير منفصل للمنصوب ، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك : إياك ، وإياه ، وإياى ، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب ، كما لا محل للكاف في أرأيتك ، وليست بأسماء مضمرة ، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون ، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب : «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب» فشيء شاذ لا يعوّل عليه ، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص ، كقوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) ، (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا). والمعنى نخصك بالعبادة ، ونخصك بطلب المعونة. وقرئ : إياك بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء. قال طفيل الغنوي :
فَهَيَّاكَ والأَمْرَ الَّذِى إنْ تَرَاحَبَتْ |
|
مَوَارِدُهُ ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُهُ (١) |
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل. ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت : هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون (٢) من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ،
__________________
(١) لمضرس بن ربعي ، وقيل لطفيل ، وهياك : أصله إياك ، قلبت همزته هاء ، وهو في محل نصب بمحذوف وجوبا ، والأمر : عطف عليه ، والأصل : احذر تلاقى نفسك والأمر فحذف ما عدا ضمير الخطاب وما عطف عليه لكثرة الاستعمال ، ولأن مقام التحذير يقتضى السرعة وإيجاز الكلام ، وقيل أصله : باعد نفسك من الأمر وباعد الأمر من نفسك ، فحذف لذلك ، وشبه أسباب الدخول في الأمر بالموارد : أى مواضع الورود إلى نحو الماء ، وأسباب الخروج منه بالمصادر : أى مواضع الصدور : أى الرجوع ، فكل منهما استعارة تصريحية ، وأما تشبيه الأمر بشيء له موارد ومصادر كالماء على طريقة المكنية ، فهو خارج عن قانون البيان ؛ لأن الأمر يطلق على كل شيء ، فتخصيصه بغير نحو الماء ثم تشبيهه به ، بالقصد لا بالوضع. ويروى هكذا :
فإياك والأمر الذي إن توسعت |
|
موارده ضاقت عليك المصادر |
فما حسن أن يعذر المرء نفسه |
|
وليس له من سائر الناس عاذر |
أى فليس عذر المرء لنفسه حسناً : أى قبوله لاعتذارها بعد وقوعها في الورطة ، وقوله : وليس له الخ : جملة حالية وعلى هذا فحقه حرف الراء.
(٢) قوله «في علم البيان قد يكون» لعله وقد ، وعبارة النسفي : وهو قد يكون. (ع)