بتفسيح المدّة وترك المعاجلة بالعقوبة. فإن قلت : فما معنى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) على هذه القراءة؟ قلت : معناه : ولا تحسبوا إن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزدادوا إثما معداً لهم عذاب مهين.
(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٧٩)
اللام لتأكيد النفي (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حتى يعزل المنافق عن المخلص. وقرئ : يميز. من ميز. وفي رواية عن ابن كثير : يميز ، من أماز بمعنى ميز. فإن قلت : لمن الخطاب في : (أَنْتُمْ)؟ قلت : للمصدّقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها ـ من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً ـ حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم ، ثم قال (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أى وما كان الله ليؤتى أحداً منكم علم الغيوب ، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها (وَلكِنَّ اللهَ) يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا ، وأن فلانا في قلبه النفاق وفلانا في قلبه الإخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد : لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم. كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإن ذلك مما استأثر الله به. وما كان الله ليطلع أحداً منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها من فاسدها مطلعا عليها (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيخبره ببعض المغيبات (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بأن تقدروه حق قدره ، وتعلموه وحده مطلعا على الغيوب ، وأن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين ، لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يخبرون إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء. وعن السدى قال الكافرون : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر. فنزلت.