كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال : ثبت أجر الغلام ، وبقي الوزر على والده (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها (١) والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ، منه التعجيل بمعنى الاستعجال ، والتأخر بمعنى الاستئخار. قال ذو الرمّة :
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا |
|
عَنِ الدَّارِ وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ (٢) |
أراد : ويا لؤم ما استخلفته الدار واستبدلته. وقيل : هو أن يعطى رديئا ويأخذ جيداً. وعن السدى : أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة ، وهذا ليس بتبدل ، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تنفقوها معها. وحقيقتها : ولا تضموها إليها (٣) في الإنفاق ، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم
__________________
(١) قوله «والتورع منها» لعله : عنها. (ع)
(٢) لذي الرمة. والسكن ـ بالسكون ـ : سكان الدار ، فهو اسم جمع لساكن ، كركب لراكب ، وصحب لصاحب. وفي نداء كرمهم معنى التعجب من كثرته ، أى يا كرم أصحاب الدار الذين ارتحلوا عنها ، ويا لؤم المستخلف المتبدل ، على صيغة اسم المفعول فيهما أى ما استخلفته وما استبدلته بعدهم من الوحوش. وقيل : من الذين لا يوفون بالمراد ، فالتبدل بمعنى الاستبدال. والمستخلف على تقدير مضاف دل عليه المقام.
(٣) قال محمود : «معناه ولا تضموها إلى أموالكم ... إلخ» : قال أحمد : وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهى عن أدناها تنبيها على الأعلى ، كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأى مخالفا لها ، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهى أن يأكله وهو غنى عنه ، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه ، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه ، حتى يلزم نهى الغنى عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر بوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول : أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته ، ولا شك أن النهى عن الأدنى وإن أفاد النهى عن الأعلى إلا أن للنهى عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة لا تؤخذ من النهى عن الأدنى ، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد ، ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل ، فخصص بالنهى تشنيعا على من يقع فيه ، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء ، دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم ، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهى بأكله مع الفقر ، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب كاعانتها عليه في الصورة الأولى. ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل ، مع أن تناول مال اليتيم على أى وجه كان منهى عنه ، كان ذلك بالادخار ، أو بالتباس ، أو ببذله في لذة النكاح مثلا ، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهى بالأكل : أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل ، وتعد البطنة من البهيمة وتعيب على من اتخذها ديدنه ، ولا كذلك سائر الملاذ ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا ، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهى به ، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف ـ