قلة مبالاة بما لا يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلمَ ورد النهى عن أكله معها؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ـ وهم على ذلك يطمعون فيها ـ كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعليهم وسمع بهم ، ليكون أزجر لهم. والحوب : الذنب العظيم. ومنه قوله عليه السلام «إن طلاق أم أيوب لحوب (١)» فكأنه قيل : إنه كان ذنبا عظيما كبيراً. وقرأ الحسن (حُوباً) بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا. وقرئ : حابا. ونظير الحوب والحاب : القول والقال. والطرد والطرد.
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا)(٣)
__________________
ـ مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها ، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهى بما هو أعلى قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) فخص هذه الصورة لأن الطبع على الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهى نظر آخر في الأمر ، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهاً على الأعلى ، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ ...) الآية كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال ، فلو أمر باسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة ، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم ، بخلاف ما إذا حضروا فان النفس يرق طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ولا يسعف ولا يساعد ، فإذا أمرت في هذه الحالة بالاسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع ، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذى الرحم مطلقاً حضر أو غاب ، فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلفى إلا في الكتاب العزيز ، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق ، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط ، فخذ هذا القانون عمدة ، وهو أن النهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى ، وإن خص الأعلى فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح ، ومثل هذا النظر في جانب الأمر ، والله الموفق.
(١) أخرجه أبو داود في المراسيل وإبراهيم الحربي في الغريب من رواية أنس بن سيرين قال : بلغني أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا أيوب. إن طلاق أم أيوب لحوب» ورواه يحيى الحماني في مسنده. والطبراني في الأوسط من طريقه. قال : حدثنا حماد بن زيد عن واصل عن محمد بن سيرين عن ابن عباس وزاد : قال ابن سيرين : والحوب الإثم. وروى الحاكم من رواية على بن عاصم عن حميد عن أنس قال : كان بين أبى طلحة وأم سليم كلاما. فأراد أن يطلقها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن طلاق أم سليم لحوب».