حتى إذا تبينتم منهم رشداً ـ أى هداية ـ دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح. أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده ، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل. والإيناس : الاستيضاح فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد ، فالابتلاء عند أبى حنيفة وأصحابه : أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد : التهدى إلى وجوه التصرف. وعن ابن عباس : الصلاح في العقل والحفظ للمال. وعند مالك والشافعي : الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء ، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين. والرشد : الصلاح في الدين ، لأن الفسق مفسدة للمال. فإن قلت : فإن لم يؤنس منه رشد إلى حدّ البلوغ؟ قلت : عند أبى حنيفة رحمه الله ينتظر إلى خمس وعشرين سنة ، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسنّ ثماني عشرة سنة ، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه السلام «مروهم بالصلاة لسبع» (١) دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه : لا يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد. فإن قلت : ما معنى تنكير الرشد؟ قلت : معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة ، أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلت : كيف نظم هذا الكلام؟ (٢) قلت : ما بعد (حَتَّى) إلى (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
__________________
ـ البلوغ والرشد فادفعوا إليهم أموالهم ، لاستقام الكلام ، ولكان البلوغ قبل الابتلاء وإن كان الابتلاء مغيا بالأمرين واقعاً قبل مجموعهما ، ونظير هذا النظر توجيه مذهب أبى حنيفة في قوله : إن فيئة المولى إنما تعتبر في أجل الإيلاء لا بعده ، وتنزيله على قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجدد به عهداً يتضح لك تناسب النظرين ، والله أعلم. وأما اقتصاره رضى الله عنه بالرشد على المال ، فان كان المولى عليه فاسق الحال فوجه استخراجه من الآية أنه علق إيناس الرشد فيها بالابتلاء بدفع مال إليهم ينظر تصرفهم فيه ، فلو كان المراد إصلاح الدين فقط لم يقف الاختبار في ذلك على دفع المال إليهم ، إذ الظاهر من المصلح لدينه أنه لا يتفاوت حاله في حالتي عدمه ويسره. ولو كان المراد إصلاح الدين والمال معا ـ كما يقوله الشافعي رضى الله عنه ـ لم يكن إصلاح الدين موقوفا على الاختبار بالمال كما مر آنفا. وأيضا فالرشد في الدين والمال جميعاً هو الغاية في الرشد ، وليس الجمع بينهما بقيد ، وتنكير الرشد في الآية يأبى ذلك ، إذ الظاهر : فان آنستم منهم رشداً ما فبادروا بتسليم المال إليهم غير منتظرين بلوغ الغاية فيه ، والله أعلم.
(١) أخرجه أبو داود والترمذي وابن خزيمة والحاكم من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبوة الجهني عن أبيه عن جده مرفوعا «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع» ورواه أبو داود والحاكم من طريق سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأعله العقيلي في الضعفاء بسوار. ورواه البزار من رواية محمد بن الحسن بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن عنه وأعله العقيلي بمحمد ابن الحسن وقال : الأولى رواية من رواه عن محمد بن عبد الرحمن مرسلا وذكره ابن حبان في الضعفاء عن عبد المنعم بن نعيم الرياحي عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة ورواه الدارقطني في الأوسط من حديث أنس وفيه داود بن المجير وهو متروك.
(٢) قال محمود رحمه الله : «فما وجه نظم الكلام الواقع بعد حتى إلى قوله فادفعوا إليهم أموالهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله : هو يروم بهذا التقدير تنزيل مذهب أبى حنيفة في سبق الابتلاء على البلوغ على مقتضى الآية ، وقد أسلفنا وجه تنزيل مذهب مالك عليها بأظهر وجه وأقربه. والحاصل أن مقتضى النظر إلى المجموع من حيث هو ومقتضى مذهب أبى حنيفة النظر إلى المفردين ، والظاهر اعتبار المجموع فان العطف بالفاء يقتضيه ، والله أعلم.