هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء ، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب (وَكانَ اللهُ شاكِراً) مثيبا موفيا أجوركم (عَلِيماً) بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت : لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع ، فيشكر شكراً مبهما ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلا ، فكان الشكر متقدما على الايمان ، وكأنه أصل التكليف ومداره.
(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)(١٤٩)
(إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) إلا جهر من ظلم (١) استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل : هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) وقيل : ضاف رجل قوما فلم يطعموه ، فأصبح شاكيا ، فعوتب على الشكاية فنزلت ، وقرئ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل للانقطاع. أى ولكن الظالم راكب ما لا يحبه الله فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (مَنْ ظُلِمَ) مرفوعا ، كأنه قيل : لا يحب الله الجهر بالسوء ، إلا الظالم على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو ، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ثم حث على العفو ، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار ، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا ، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية ، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا (٢) للعفو ، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته ، وأن له مكانا في باب الخير وسيطا (٣). والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ
__________________
(١) قال محمود : «تقديره لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم ، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه ... الخ» قال أحمد : «ووجه التغاير أن الظالم لا يندرج في المستثنى منه كما أن الله تعالى مقدس أن يكون في السموات أو في الأرض ، فاستحال دخوله في المستثنى منه. وكذا لا يندرج المستثنى في المستثنى منه في قولك : ما جاءني زيد إلا عمرو. وكلام الزمخشري في هذا الفصل لا يتحقق لي منه ما يسوغ مجازيته فيه لاغلاق عبارته ، والله أعلم بمراده.
(٢) قوله «تشبيها» لعله محرف وأصله «تنبيها» فحرر (ع)
(٣) قوله «وسطا» أى متوسطا. (ع)