مِنْ ذلِكَ) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون ، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت (جَهْرَةً) عيانا بمعنى أرناه نره جهرة (بِظُلْمِهِمْ) بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة ، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة ، فتبا للمشتبهة ورميا بالصواعق (١) (آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان مبين (بِمِيثاقِهِمْ) بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه (وَقُلْنا لَهُمُ) والطور مطل عليهم (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ولا تعدوا في السبت ، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك ، وقولهم سمعنا وأطعنا ، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ : لا تعتدوا. ولا تعدّوا ، بإدغام التاء في الدال (فَبِما نَقْضِهِمْ) فبنقضهم. «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت : بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ (٢) قلت : إما أن يتعلق بمحذوف ، كأنه قيل : فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا ، وإما أن يتعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أنّ قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت : هلا زعمت أن المحذوف (٣) الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) فيكون التقدير :
__________________
(١) قوله «فنبا للمشبهة ورميا بالصواعق» يعنى أهل السنة ، حيث أجازوا على الله الرؤية كما حقق في محله ، وغفر الله للمؤمن يسيء المؤمنين. (ع)
(٢) قال محمود : «إن قلت بم تعلقت الباء في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قلت : إما أن تتعلق بمحذوف كأنه قيل : فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا. وإما أن تتعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أن قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) انتهى كلامه». قلت : ولذكر البدل المذكور سر ، وهو أن الكلام لما طال بعد قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) حتى بعد عن متعلقه الذي هو حرمنا ، قوى ذكره بقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) حتى يلي متعلقه ، وجاء النظم به على وجه من الاقتصار في إجمال ما سبق تفصيله ، لأن جميع ما تقدم من النقض ، والقتل ، وقولهم قلوبنا غلف ، وكفرهم ، وقولهم على مريم بهتانا عظيما. ودعواهم قتل المسيح ابن مريم قد انطوى عليه الإجمال المذكور آخرا انطواء جامعا ، مع التسجيل على أن جميع أفاعيلهم الصادرة منهم ظلم. وقد تقدم لهذا التقرير نظائر والله الموفق.
(٣) عاد كلامه. قال : «إن قلت هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) فيكون التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم. قلت : لم يصح هذا التقدير ؛ لأن قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقا به ، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أن الله خلقها غلفا ، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة أخزاهم الله ، فقيل لهم : بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها» انتهى كلامه. قال أحمد : هؤلاء قوم زعموا أن لهم على الله حجة بكونه خلق قلوبهم غير قابلة للحق