فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم ، بل طبع الله عليها بكفرهم. قلت : لم يصح هذا التقدير لأنّ قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ردّ وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقاً به ، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أنّ الله خلق قلوبنا غلفاً ، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة (١) أخزاهم الله ، فقيل لهم : بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله. فإن قلت : علام عطف قوله (وَبِكُفْرِهِمْ)؟ قلت : الوجه أن يعطف على : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجعل قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلاماً تبع قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) على وجه الاستطراد ، يجوز عطفه على ما يليه من قوله : (بِكُفْرِهِمْ). فإن قلت : ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً على ما فيه ذكره ، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) وقوله : (بِكُفْرِهِمْ)؟ قلت : قد تكرّر منهم الكفر ، لأنهم كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد صلوات الله عليهم ، فعطف بعض كفرهم على بعض ، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : فيجمعهم بين نقض الميثاق ، والكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء ، وقولهم قلوبنا غلف ، وجمعهم
__________________
ـ ولا متمكنة من قبوله ، فكذبهم في قولهم لأنه خلق قلوبهم على الفطرة أى أن الايمان وقبول الحق من جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين ، وذلك هو المعبر بالتمكن ، وبخلقهم ميسرين للايمان ، متأتيا منهم قبول الحق قامت عليهم حجة الله ، إذ يجد الإنسان بالضرورة الفرق بين قبول الحق والدخول في الايمان ، وبين طيرانه في الهواء ومشيه على الماء ، ويعلم ضرورة أن الايمان ممكن منه ، كما يعلم أن الطيران غير ممكن منه عادة ، فقد قامت الحجة وتبلجت ، ألا لله الحجة البالغة ، فمن هذا الوجه اتجه الرد عليهم «لا كما يزعمه الزمخشري من أن لهم قدرة على الايمان يلحقونه بها لأنفسهم ويقرونه في قلوبهم ، وتلك القدرة موجودة سواء وجد الفعل أو لا ، كالسيف المعد في يد القاتل للقتل سواء وجد أو لا ، وأن هذه القدرة التي هي كالآلة للخلق على زعمه يصرفها العبد حيث شاء في إيمان وكفر ، وافق ذلك مشيئة الله أولا ، وأن هؤلاء صرفوا قدرتهم إلى خلق الكفر لأنفسهم على خلاف مشيئة الله تعالى ، فلذلك يعرض الزمخشري بأهل السنة ، القائلين بأن الله تعالى لو شاء من عبدة الأوثان أن لا يعبدوها لما عبدوها ، وتسميتهم لذلك مجبرة ، ويجعل قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ردا على الأشعرية كما هو رد على الوثنية ، ويغفل عن النكتة التي نبهنا عليها ، وهي : أن الرد على الوثنية بذلك لم يكن إلا لأنهم ظنوا أن هذا المقدار يقيم لهم الحجة على الله ، ولذلك قال تعالى عقيب ذلك (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فأوضح الله تعالى أن الرد عليهم لم يكن لقولهم : إن الله لو شاء لهداكم أجمعين ، ولكن إنما كان الرد لظنهم أن ذلك حجة على الله بقوله : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فهذا التقدير هو الايمان المحض والتوحيد الصرف ، وما عداه من الاشراك الصراح فخزي ، نعوذ بالله منه.
(١) قوله «وكمذهب المجبرة أخزاهم الله» يريد بهم أهل السنة وحاشاهم أن يريدوا بمذهبهم ما أراده الكفار بما قالوا. وتحقيقه في علم التوحيد. وغفر الله لمن تعدى حد الشرع من المؤمنين ولا أخراهم يوم الدين. (ع)