قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم. وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب : أنهما قرءا (وَكَلَّمَ اللهُ) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم (١) ، وأن معناه وجرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير. فإن قلت : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل (٢) ، وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة ، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ، ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت : الرسل منبهون عن الغفلة ، وباعثون على النظر ، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد (٣) مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة ، لئلا يقولوا :لو لا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له. وقرأ السلمى :
__________________
(١) قال محمود : ومن بدع التفاسير أن كلم من الكلم ... الخ» قال أحمد : وإنما ينقل هذا التفسير عن بعض المعتزلة لانكارهم الكلام القديم الذي هو صفة الذات ، إذ لا يثبتون إلا الحروف والأصوات قائمة بالأجسام ، لا بذات الله تعالى ، فيرد عليهم بجحدهم كلام النفس إبطال خصوصية موسى عليه السلام في التكليم ، إذ لا يثبتونه إلا بمعنى سماعه حروفا وأصواتا قائمة ببعض الأجرام ، وذلك مشترك بين موسى وبين كل سامع لهذه الحروف ، حتى المشرك الذي قال الله فيه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فيضطر المعتزل إلى إبطال الخصوصية الموسوية بحمل التكليم على التجريح ، وصدق الزمخشري وأنصف : إنه لمن يدع التفاسير التي ينبو عنها الفهم ولا يبين بها إلا الوهم ، والله الموفق
(٢) عاد كلامه. قال محمود : «فان قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل ... الخ» قال أحمد : قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين تجرهم وتجرؤهم إلى إثبات أحكام الله تعالى بمجرد العقل وإن لم يبعث رسولا ، فيوجبون بعقولهم ، ويحرمون ويبيحون على وفق زعمهم. ومما يوجبونه قبل ورود الشرع : النظر في أدلة المعرفة ولا يتوقفون على ورود الشرع الموجب ، فمن ثم يلزمون بعد خبط وتطويل ، أن من ترك النظر في الأدلة قبل ورود الشرع ، فقد ترك واجباً استحق به التعذيب ، وقد قامت الحجة عليه في الوجوب وإن لم يكن شرع ، وإذا تليت عليهم هذه الآية وهي قوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقيل لهم أما هذه الآية تناديكم يا معشر القدرية أن الحجة إنما قدمت على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل لا بمجرد العقل ، فما تقولون فيها؟ صمت حينئذ آذانهم وغيروا في وجه هذا النص وغيروه عما هو موضوع له ، فقالوا : المراد أن الرسل تتمم حجة الله وتنبه على ما وجب قبل بعثها بالعقل ، كما أجاب به الزمخشري ، وقريبا من هذا التعسف يقولون إذا ورد عليهم قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وربما يدلس على ضعفة المطالعين لهذا الفصل من كلام الزمخشري قوله : إن أدلة التوحيد والمعرفة منصوبة قبل إرسال الرسل ، وبذلك تقوم الحجة فنظن أن ذلك جار على سنن الصحة ، إذ المعرفة باتفاق ، والتوحيد بإجماع ، إنما طريقه العقل لا النقل الذي يلبس عليه أن النظر في أدلة التوحيد هو فعل المكلف ليس بالحكم الشرعي ، بل الحكم وجوب النظر ، والمعرفة متلقاة من العقل المحض ، والوجوب متلقى من النقل الصرف ، وبه تقوم الحجة ، وعليه يرتب الجزاء. والله سبحانه ولى التوفيق والمعونة.
(٣) قوله «كما ترى علماء أهل العدل» أى كما ذهب إليه المعتزلة. وذلك أنهم حكموا العقل وجعلوه كافيا في معرفة الأحكام ، كوجوب العدل وحرمة الظلم. وقال أهل السنة : لا حكم قبل الشرع. والمسألة مشهورة في علم الأصول ، فالسؤال مبنى على مذهب المعتزلة. (ع)