لكنّ الله يشهد ، بالتشديد. فإن قلت : الاستدراك لا بدّ له من مستدرك (١) فما هو في قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ)؟ قلت : لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا بذلك واحتج عليهم بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال : لكن الله يشهد ، بمعنى أنهم لا يشهدون لكن الله يشهد. وقيل : لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قالوا : ما نشهد لك بهذا ، فنزل (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه : إثباته لصحته بإظهار المعجزات ، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة :شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت : بم يجابون لو قالوا : بم يعلم أن الملائكة يشهدون بذلك؟ قلت : يجابون بأنه يعلم بشهادة الله ، لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة يشهدون بصحة ما شهد بصحته ؛ لأنّ شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت : ما معنى قوله (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت : معناه أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة ، وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل : أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل : أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه. ويحتمل : أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة ، والملائكة يشهدون بذلك ، كما قال في آخر سورة الجنّ. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) والإحاطة بمعنى العلم (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وإن لم يشهد غيره ، لأنّ التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقاً (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١٦٩)
(كَفَرُوا وَظَلَمُوا) جمعوا بين الكفر والمعاصي (٢) ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت الاستدراك لا بد له من مستدرك ... الخ» قال أحمد : ورود هذا الفصل في كلامه مما يغتبط به.
(٢) قال محمود : «أى جمعوا بين الكفر والمعاصي ... الخ» قال أحمد : يعدل من الظاهر ، لعله يتروح إلى بث طرف من العقيدة الفاسدة في وجوب وعيد العصاة ، وأنهم مخلدون تخليد الكفار. وقد تكرر ذلك منه. وهذه الآية تنبو عن هذا المعتقد ، فانه جعل الفعلين أعنى الكفر والظلم كليهما صلة للموصول المجموع ، فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده. ألا تراك إذا قلت : الزيدون قاموا ، فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع ، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة ، والله الموفق.