وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومن في طبقتهم. فإن قلت : من أين دلّ قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على أنّ المعنى : ولا من فوقه؟ قلت : من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة ، كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقرّبون من العبودية ، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقرّبين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة. ومثاله قول القائل :
وَمَا مِثْلُهُ مِمَّنْ يُجَاوِدُ حَاتِمٌ |
|
وَلَا الْبَحْرُ ذُو الْأَمْوَاجِ يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ (١) |
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذى الأمواج : ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) حتى يعترف بالفرق البين. وقرأ علىّ رضى الله عنه : عُبيداً لله ، على التصغير. وروى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________________
ـ لا يستنكف عن عبادة الله تعالى ، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام ، وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلب عاليها سافلها ، فيكون تفضيل الملائكة إذاً بهذا الاعتبار ، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش ، وأن خوارقهم أكثر. وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء. وليس في الآية عليه دليل. ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا أى موجوداً من غير أب ، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله ، بل ولا الملائكة المخلوقين من غير أب ولا أم ، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى. ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام ، فنظر الغريب بالأغرب ، وشبه العجيب من قدرتهبالأعجب ؛ إذ عيسى مخلوق من أم ، وآدم من غير أم ولا أب ؛ ولذلك قال : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها ، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد ، فقد استد النظر وطابق صيغة الآية ، والله أعلم. وعلى الجملة فالمسألة سمعية والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وما أحسن تأكيد الزمخشري لاستدلاله ببعث الملائكة المعنيين بأنهم المقربون ، ومن ثم ينشئ ظهور من فصل القول في الملائكة والأنبياء ، فلم يعمم التفضيل في الملائكة ولا في الأنبياء ، بل فضل ثم فصل. وليس الغرض إلا ذكر محامل الآية ، لا البحث في اختلاف المذاهب ، والله الموفق.
(١) «يلتج» أى تضطرب لجته وهي معظم مائه. و «الزاخر» المرتفع. يقول : وليس مثل ممدوحى من الناس الذين يجاودهم حاتم ، ولا من الذين يجاودهم البحر الزاخر ، أى يضاهيهم في الجود. فالبحر : عطف على «حاتم» بالغ في وصف ممدوحه بأن مثله لا يضاهي في الكرم ، فيلزم أنه هو لا يضاهي أيضا ، فنفى المضاهاة عن المثل كناية عن نفيها عن الممدوح. وفيه مبالغة أيضا من جهة ترقيه من نفى مجاودة أكرم الناس إلى نفى مجاودة أنفع الأشياء. والفعل بالنسبة للبحر مجاز أو مشاكلة. أو شبه البحر بإنسان وأثبت له المجاورة على طريق المكنية وهذا على أن «يجاود» مبنى للفاعل ، فان كان مبنيا للمجهول فالمعنى أن حاتم ليس مثله ممن يضاهي في الجود ، كما أن البحر لا يضاهي في النفع. فقد شبهه بالبحر ضمنا.