نحيته عن خدك بإصبعك (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً
__________________
ـ درجة الأفضل على درجات المجموع ـ ضرورة ، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعاً.
الثالث أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو ، وهي لا تقتضي ترتيبا. وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة ، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك ، كقول القائل : ما عابنى على هذا الأمر زيد ولا عمرو. قلت : وكقولك : لا تؤذ مسلما ولا ذميا ، فان هذا الترتيب وجه الكلام. والثاني أدنى وأخفض درجة ، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت : لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانياً ، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة. وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر ، ولكن الحق أولى من المراء ، وليس بين المثالين تعارض. ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة ، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى ، وفي مواضع تأخيره. وتلك النكتة مقتضى البلاغة النائى عن التكرار والسلامة عن النزول ، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده ، وأنت مستغن عن الآخر ، فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول ، مثاله الآية المذكورة ، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة ، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه ؛ لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبداً لله غير مستنكف من العبودية ، لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبداً لله وهم الملائكة على هذا التقدير ، فلم يتجدد إذاً بقوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إلا ما سلف أول الكلام. وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة ، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبداً له ، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك ، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل ، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة ، إذ لم يستلزم الأول الآخر ، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد ، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز ، لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن تقول لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً ، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية ؛ لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم ، فقد يقال : ذاك من خواصه ، احتراما للإسلام. فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية ، فإذا قلت : ولا ذمياً ، فقد جددت فائدة لم تكن في الأول ، وترقيت من النهى عن بعض أنواع الأذى إلى النهى عن أكثر منه ، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت : لا تؤذ ذمياً ، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهى ، إذ يساوى الذمي في سبب الاحترام وهو الانسانية مثلا ، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام ، فيقنعه هذا النهى عن تجديد نهى آخر عن أذى المسلم. فان قلت : ولا مسلماً ، لم تحدد له فائدة ولم تعلمه غير ما علمه أولا ، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحياناً تأخيره ، ولا يميز لك ذلك إلا السياق. وما أشك أن سياق الآية يقتضى تقديم الأدنى وتأخير الأعلى. ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقدير الأدنى ، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والأنهار ، لأنه مستغنى عنه وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ولما اقتضى الانصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة ، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك ، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف. وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. قال : وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية ؛ لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام ، مستندين إلى كونه أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة ، فناسب ذلك أن يقال : هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق