وإن جعل كلاما معترضاً فلا محلّ له. فإن قلت : من أين علما أنهم غالبون؟ قلت : من جهة إخبار موسى بذلك. وقوله تعالى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وقيل ، من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله ، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة. والباب : باب قريتهم (لَنْ نَدْخُلَها) نفى لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس. و (أَبَداً) تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول. و (ما دامُوا فِيها) بيان للأبد (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب (١) ولكن كما تقول : كلمته فذهب يجيبنى ، تريد معنى الإرادة والقصد للجواب ، كأنهم قالوا : أريدا قتالهم. والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وقلة مبالاة بهما واستهزاء ، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية الله عز وجل جهرة. والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم ويحكى أنّ موسى وهرون عليهما السلام خرّا لوجوههما قدّامهم لشدّة ما ورد عليهما ، فهموا برجمهما. ولأمر مّا قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا).
(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٦)
لما عصوه وتمرّدوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق به إلا هرون (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ) لنصرة دينك (٢) (إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة
__________________
(١) قال محمود : «يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب ولكن ... الخ» قال أحمد رحمه الله : يريد الزمخشري سألوا رؤية الله جهرة وهي محال عقلا تعنتا منهم. وقد مر له ذلك ، وبينا ان تلبسهم بذلك كان لعدم فهم الايمان به على التعيين اقتراحا وتقاعسا عن الحق في قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).
(٢) عاد كلامه. قال محمود : «قال رب إنى لا أملك لنصرة دينك إلا نفسي ... الخ» قال أحمد : وفي قول موسى عليه الصلاة والسلام ليلة الاسراء لنبينا عليه الصلاة والسلام : إنى جربت بنى إسرائيل وخبرتهم ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فان أمتك لا تطيق ذلك. وتكريره هذا القول مراراً مصداق لما ذكره الزمخشري. وأما إن كان المراد بالرجلين غير يوشع وكالب ـ وكانا من العماليق الذين خافهم بنو إسرائيل ـ ويكون معنى يخافون أى يخافهم بنو إسرائيل ـ فالضمير على هذا يرجع إلى بنى إسرائيل ، والعائد محذوف وهو المفعول. فعلى هذا لا شك أن هذين الرجلين ليسا من بنى إسرائيل المكتوب عليهم قتال العمالقة. وإنما عنى موسى عليه السلام : إنى لا أملك من بنى إسرائيل المفروض عليهم القتال أمر أحد إلا نفسي وأخى ، والله أعلم.