لمن لا يؤمنون به وبكتابه ، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم كما يدّعون. أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم. فإن قلت : (فِيها حُكْمُ اللهِ) ما موضعه من الإعراب؟ قلت : إمّا أن ينتصب حالا من التوراة وهي مبتدأ خبره عندهم وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك : وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله وإمّا أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة ، لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ، كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب ، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت : لم أنثت التوراة؟ قلت : لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب. فإن قلت : علام عطف ثم يتولون؟ قلت : على يحكمونك.
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٤٤)
(فِيها هُدىً) يهدى للحق والعدل (وَنُورٌ) يبين ما استبهم من الأحكام (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح (١) ، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة
__________________
(١) قال محمود : «قوله أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح ... الخ» قال أحمد : وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها ، فذكر النبوة يستلزم ذكرها ، فمن ثم حملها على المدح. وفيه نظر ؛ فان المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه. والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي أن يقتصر على كونه رجلا مسلما ؛ فان أقل متبعيه كذلك. فالوجه والله أعلم أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر ، كما يكون تنويها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة ، قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وأمثاله ، تنويهاً بمقدار الصلاح ؛ إذ جعل صفة الأنبياء وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته ، وكذلك قيل في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فأخبر عن الملائكة المقربين بالايمان تعظيما لقدر الايمان ، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة ، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنين ليس إلا ، ولهذا قال : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعنى من البشر لثبوت حق الاخوة في الايمان بين الطائفتين ، فكذلك ـ والله أعلم ـ جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به. ولقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف ، والناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام
فلئن مدحت محمداً بقصيدتي |
|
فلقد مدحت قصيدتي بمحمد |