والتوضيح ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث ، وأنّ اليهودية بمعزل منها. وقوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) مناد على ذلك (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) والزهاد والعلماء من ولد هارون ، الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة ، أى بسبب سؤال أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل. و (مِنْ) في : (مِنْ كِتابِ اللهِ) للتبيين (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى ، وكان بينهما ألف نبىّ وعيسى للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد. وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله والقضاء بأحكامه ، وبسبب كونهم عليه شهداء. ويجوز أن يكون الضمير في : (اسْتُحْفِظُوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا ويكون الاستحفاظ من الله ، أى كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم (١) فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء (وَلا تَشْتَرُوا) ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا (بآيات الله) وأحكامه (ثَمَناً قَلِيلاً) وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرّف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرئاسة فهلكوا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) مستهينا به (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) والظالمون والفاسقون : وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة. وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين : أهل الكتاب.
__________________
ـ والإسلام وإن كان من أشرف الأوصاف إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه ، إلا أن النبوة أشرف وأجل ، لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة ، فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة في سياق المدح ، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز ، وفي كلام العرب الفصيح ، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس. ألا ترى أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله :
شمس ضحاها هلال ليلتها |
|
در تقاصيرها زبرجدها |
فنزل عن الشمس إلى الهلال. وعن الدر إلى الزبرجد ، في سياق المدح ، فمضغت الألسن عرض بلاغته ، ومزقت أديم صيغته. فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات ، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهود لها ، والله الموفق للصواب.
(١) قوله «وادهانهم فيها» في الصحاح : المداهنة ـ كالمصانعة. والادهان مثله. (ع)