عليهم ويرضى عنهم : وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً ، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف ، وما يدينون به من المحبة والعشق ، والتغني على كراسيهم خربها الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء ، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور ، فتعالى الله عنه علواً كبيراً ، ومن كلماتهم : كما أنه بذاته يحبهم ، كذلك يحبون ذاته ، فإنّ الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها : الحب شرطه أن تلحقه
__________________
المحبة لغة بالقواعد لينظر أهى ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا ، إذ المحبة لغة : ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس ، كلذة الذوق في المطعوم ، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة ، ولذة الشم في الروائح العطرة ، ولذة السمع في النغمات الحسنة ، وإلى لذة تدرك بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجرى مجراها ، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس ، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها ، فليس اللذة برئاسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرئاسة على أقاليم معتبرة. وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث ، فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق ، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم ، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن. وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات ، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة ، بل واقعة من كل مؤمن ، فهي من لوازم الايمان وشروطه ، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم. وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة ، وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها. ألا ترى إلى الأعرابى الذي سأل عن الساعة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «ما أعددت لها» قال : ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام «أنت مع من أحببت» فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات ، لأن الأعرابى نفاها وأثبت الحب وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك ، ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة ، فالمحبة في اللغة إذا تأكدت سميت عشقاً ، فمن تأكدت محبته لله تعالى وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته ، فلا يمنع أن تسمي محبته عشقاً ؛ إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة. وما أردت بهذا الفصل إلا تخليص الحق والانتصاب لأحباء الله عز وجل من الزمخشري ، فانه خلط في كلامه الغث بالسمين ، فأطلق القول كما سمعته بالقدح الفاحش في المتصوفة من غير تحر منه ، ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ، ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر ، ولا يلزم من تسمى طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ، ثم ارتكابهم ما نقل عنهم مما ينافي حال المسمين به حقيقة ، أن يؤاخذ الصالح بالطالح (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وهذا كما أن علماء الدين قد انتسب إليهم قوم سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد ، ثم خلعوا الربقة فجحدوا صفات الله تعالى وقضاءه وقدره وقالوا : إن الأمر أنف ، وجعلوا لأنفسهم شركا في المخلوقات وفعلوا وصنعوا ، فلا يسوغ لنا أن نقدح في علماء أصول الدين مطلقاً ؛ لأنهم قد انتسب إليهم من لا حيلة لهم في نفيه عن التسمي بنعتهم ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولا شك أن في الناس من أنكر تصور محبة العبد لله إلا بمعنى طاعته له لا غير ، وهو الذي يحاز إليه الزمخشري. وقد بينا تصور ذلك وأوضحناه. والمعترفون بتصور ذلك وثبوته ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا ، كما أن الصبى ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره ، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو شبه ذلك ، وكل طائفة تسحر بمن فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء. قال الغزالي : والمحبون لله يقولون لمن أنكر عليهم ذلك : إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون.