أخذه عليهم في عالم الذر من الميثاق له بالربوبية ، (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ذاك ، لأن الضمير في الميثاق عائد للعهد. أي بعد إحكام العهد وتوثيقه وإبرامه. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ينكثون الصلة بالنبيّ والمؤمنين ، والأرحام (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ينشرون الفساد ويدعون إلى الكفر والزّندقة ، وقطع طريق المسلمين بالسرقة والتخويف والقتل والوعيد ، (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وأيّة خسارة أعظم من استبدال نقض العهد بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب؟. فهم كمن ضيّع رأس ماله باختياره وكان عاقبة أمره الخسران الذي ألزمه عذاب الأبد وحرمه النعيم السرمد.
٢٨ ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ... استفهام إنكاريّ في مقام تعجّب. والخطاب لكفّار قريش واليهود. كيف تنكرون الله وكنتم أمواتا : أي عناصر وأخلاطا وأغذية ونطفا في الأصلاب قبل خلقكم ، (فَأَحْياكُمْ) أثناء وجودكم في أرحام أمهاتكم. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد خروجكم إلى دار الدنيا وعند حلول آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبور عند السؤال أو يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعودون للحشر من القبور إلى الحساب والثواب أو الجزاء.
٢٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ... خلق ، أي أوجد لكم الأشياء لانتفاعكم في كل ما تحتاجون إليه في حياتكم من المطاعم والملابس والمناكح والمساكن ونحوها. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي وجّه قدرته وإرادته لخلقها بعد خلق الأرض وبثّ ما فيها (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي جعلهن مستويات طبق النظام الأحسن والأصلح. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عارف خبير.
٣٠ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ... أخذ بالتّنبيه إلى نعمة أخرى عليهم ، وهي نعمة خلق أبيهم آدم (ع) وإكرامه وتفضيله على الملائكة. الملائك : جمع ملأك ، كالشمائل والشّمأل. والتأنيث للجمع. وهم أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة. (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وهو من يخلف غيره ، والمراد هنا آدم (ع). (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي كما فعل الجنّ من قبل إذ نشروا الفتن وأراقوا الدماء!. وقد قالوا ذلك سؤالا لا اعتراضا عليه سبحانه. (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نفعل ما تريد من آدم من التنزيه والتطهير عما لا يليق بجنابه تعالى ويكرهه. (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أعرف ما لا تدركونه ما الغاية.
٣١ ـ ٣٢ ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) ... أي أظهرها ثم طلب منهم بلين ورفق قائلا (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أي أخبروني بأسماء هذه الأشباح التي ستتكوّن من آدم ـ وبعده ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأنكم أولى بالخلافة في الأرض من آدم؟ (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) إذ أحسّوا بأنه تعالى كره جوابهم الذي جاء على مقتضى خلقهم وأنهم لا يعرفون إلّا ما علّمهم بعد خلقهم. فحصروا العلم بذاته القدسية ، واعترفوا بحكمته التي لا يدركونها ، وتأدّبوا في إظهار جهلهم أمام (الْعَلِيمُ) العارف (الْحَكِيمُ) المتقن في أفعاله المصيب في أقواله.
٣٣ ـ (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ... أي أخبرهم بالأسماء ، وعرّفهم المسمّيات في مقاماتها الراقية ، والضمائر في الآية الكريمة معهودة ومعروفة عند الملائكة ، ولولا ذلك لكان تعليم أسماء المسمّيات المجهولة غير ذي فائدة ، حتى مع الوعد بتعريفها فيما بعد. (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أخبرهم بها فعرفوها بتطبيق الأسماء على المسمّيات. قال تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أعرف مكنوناتها وأسرارها (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وأعرف ما تظهرون من ردّكم عليّ ، وما تخفون في ضمائركم بأنه ليس أحد أفضل منكم.
٣٤ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ... أخذ سبحانه في بيان نعمة أخرى على بني آدم وفضيلة ثانية ، إذ أمر الملائكة بالسجود لأبيهم. (وَإِذْ) : نصب بمضمر ، أي : اذكر يا محمد. والمأمورون هم الجميع لعموم اللّفظ ولقوله تعالى في مورد آخر : فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلا إبليس. والسجود ، لغة : التذلل والخضوع ، وشرعا : وضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة. وسجود الملائكة كان تعظيما لله وتكرمة لآدم (ع). (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الذي إنما دخل في الأمر لكونه منهم بالولاء. ولم يكن من جنسهم لأنه كان من الجن