أعرضتم عن العهد والميثاق والوفاء بهما (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد أخذكم ما عاهدتم عليه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لولا تفضّله عليكم بقبول التوبة ، وإمهاله لكم بعد أن راجعتموه فيما فرض عليكم ، ورحمته التي شملتكم بإنعامه عليكم بالإسلام لولا ذلك (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) مع من خسر من الذين لم يوفّقوا للتوبة ولا للإقرار بمحمّد (ص) بعد ظهور دعوته.
٦٥ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) ... عرفتم الذين تجاوزوا حدود ما شرع لهم من النهي عن صيد الحيتان يوم السبت. (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فجعلهم ـ بالمسخ ـ قردة مبعدين عن رحمته في الدنيا والآخرة.
٦٦ ـ (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها) : الضمير في جعلنا يعود إلى الأمة التي مسخت قردة. وهم أهل أيلة ، القرية التي على شاطئ البحر. وقيل إنه قصد المسخ والقرديّة (نَكالاً) عقوبة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) لمن حضرها وشاهدها (وَما خَلْفَها) ولمن يأتي بعدها من الأمم. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي أنها نصح وتذكير لمن كان متّقيا منهم أو من غيرهم.
٦٧ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ... اذكروا ـ يا بني إسرائيل ـ يوم قال موسى ليهود عصره : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وسبب الأمر بذبحها : أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ، ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاء يطلب بدمه. فقالوا لموسى : سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله. فقال (ع) : «إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة» ائتوني ببقرة ، (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي تستهزئ وتسخر منّا؟. (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) استعاذ به تعالى من أن يسخر ويستهزئ. ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأهم ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم.
٦٨ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سل ربّك لأجلنا (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) وما صفتها لنمتثل أمره (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ) بعد ما سألته (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي أنها لا مسنّة ولا فتيّة بل هي وسط بينهما. (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) فنفّذوا ما أمركم الله تعالى به.
٦٩ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) ... سألوا عن لونها (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) صفراء شديدة الصّفرة حتى قرنها وظلفها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ترتاح نفس الناظرين إليها.
٧٠ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سألوه أن يسأل ربه (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تكريرا لزيادة الاستيضاح وبيانا لكثرة لجاجهم وشدة خصومتهم مع نبيّهم (ع) فقالوا : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي اشتبهت صفته التي أمر الله بها. (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفتها بتعريف الله.
٧١ ـ (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) ... أجاب موسى (ع) أن الله تعالى يقول إنها (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) لم تذلّل بحراثة الأرض وقلبها بالفلاحة وبأظلافها (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) وليست من النواضح التي تدير النواعير فتسقي الزرع (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) سليمة من العيوب ، لا وضح فيها ولا لون يخالط لونها. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي ظهرت حقيقة صفاتها. فلمّا تمّت صفات البقرة اشتروها (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي فعلوا ذلك ببطء وكانوا يريدون أن لا يفعلوا ذلك : إمّا لغلاء ثمنها. وإمّا خوف فضيحة القاتل ، وإمّا لجاجا في العناد كما هي عادتهم.
٧٢ ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ... خوطب الجميع لوجود القتل فيهم أو لمداهنة غير المباشرين معهم ، الكاشفة عن رضاهم بفعلهم ، لكون القاتل معلوما عند أكثرهم من القرائن. (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي تدافعتم فدفع كلّ متّهم التّهمة عن نفسه (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي مظهره ومبرزه.
٧٣ ـ (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ... أي خذوا جزءا من البقرة التي ذبحتموها ، كذنبها أو فخذها أو لسانها ، ثم اضربوا القتيل به فإنه يحيا ويخبر بقاتله. وهكذا كان. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي يعيد لهم الحياة. وهو خطاب منه سبحانه لمشركي قريش وغيرهم يبيّن فيه سهولة البعث. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائل قدرته وأعلام الدلالة على صدق محمّد (ص) (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تفكّرون وتستعملون عقولكم كيلا تكونوا كمن لا عقل له.
٧٤ ـ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ... خلت من اللين والرحمة وتصلّبت (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد إحياء القتيل. (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في صلابتها وعدم لينها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) من الحجارة ولم يقل سبحانه : أقسى ، بل قال : أشد لأنها أبلغ في إظهار القسوة ، وقد بيّن تلك الأشديّة بقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ