في كتب النحو. (ذلِكَ) أي مجموع ما ذكر من أكل النار ، وعدم التكليم ، والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي بسبب أن الله تعالى (نَزَّلَ) القرآن ، أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه ـ بالتكذيب أو الكتمان.
(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) أي في جنسه ـ بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض ـ أو في التوراة ، ومعنى (اخْتَلَفُوا) تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها ، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها ـ أو في القرآن ـ واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه سحر ، وبعضهم إنه شعر ، وبعضهم إنه أساطير الأولين.
(لَفِي شِقاقٍ) أي خلاف (بَعِيدٍ) عن الحق موجب لأشد العذاب ، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل ـ الواو ـ للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ) اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى ـ والخطاب لأهل الكتابين ـ والمراد من (قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) السمتان المعينان ، فإن اليهود تصلي ـ قبل المغرب ـ إلى بيت المقدس من أفق مكة ، والنصارى ـ قبل المشرق ـ والآية نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر ـ البر ـ على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا بنفي جنس (الْبِرَّ) عن قبلتهم لأنها منسوخة ، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي ـ لا للقصر ـ إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي. ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين ـ فيكون عودا على بدء ـ فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع ، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر (الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) التعميم ـ لا تعيين السمتين ـ وتعريف (الْبِرَّ) حينئذ إما للجنس فيفيد القصر ، والمقصود نفي اختصاص (الْبِرَّ) بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه ، وإما للعهد أي ليس (الْبِرَّ) العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك ، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب ، وقرأ حمزة وحفص ـ البر ـ بالنصب والباقون بالرفع. ووجه الأولى أن يكون خبرا مقدما كما في قوله :
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم |
|
فليس «سواء» عالم وجهول |
وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم ، ووجه الثانية أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (لَيْسَ الْبِرَّ) بالنصب بأن تولوا ـ بالباء ـ (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل ، وأل ـ في (الْبِرَّ) إما للجنس فيكون القصر ادعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد ، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله ، والكلام على حذف مضاف أي ـ برّ من آمن ـ إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال بإطلاق (الْبِرَّ) على البار مبالغة ، والأول أوفق لقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ) وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول ، والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين ـ عزير ابن الله والمسيح ابن الله ـ وقرأ نافع وابن عامر ـ «ولكن» ـ بالتخفيف ، وقرأ بعضهم «البار» بصيغة اسم الفاعل.