سبحانه. وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عزوجل وقد يفتح منها ما شاء لمن يشاء.
هذا وقد يقال : حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهياتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] بناء على عود الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصورة مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا ، وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال : إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا ، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ) أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها (وَالْبَحْرِ) أي بحر القلوب من لآلئ الحكم ومرجان العرفان. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب (إِلَّا يَعْلَمُها) في سائر أحوالها. (وَلا حَبَّةٍ) من بذر الجلال والجمال (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) وهو عالم الطبائع والأشباح (وَلا رَطْبٍ) من الإلهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج (وَلا يابِسٍ) من الوساوس والخطرات التي تفزع منها النفس حين ترد عليها (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو علمه سبحانه الجامع ، وبعضهم لم يؤول شيئا من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها ، ويمكن أن يقال : إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسماة بالأعيان الثابتة ، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي ينيمكم وقيل : يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت.
وقيل : يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي كسبتم (بِالنَّهارِ) من الأعمال مطلقا ، وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات.
وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة ، وقيل الحسنة ، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي ، وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي معين عنده (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) في عين الجمع المطلق (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠].
(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وهي للقوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصور مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) قيل : هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) في عين الجمع المطلق (مَوْلاهُمُ) أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به (الْحَقِ) وكل ما سواه باطل. وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى