(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي قال : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بلغني أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل»
وقيل : المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.
وقيل : إن هذا النزع إنما كان في الدنيا ، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا ، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.
ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير منهم ، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبئ بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعدة ظاهر الصيغة و (مِنْ غِلٍ) على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) حال أيضا إما من الضمير في (صُدُورِهِمْ) لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف ، وإما من ضمير (نَزَعْنا) على ما قيل والعامل الفعل. واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم. والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) الفوز العظيم والنعيم المقيم. والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها.
وقيل : المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه. ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) وفقنا له ، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول (لِنَهْتَدِيَ) و (هَدانا) الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه ، والجملة حالية أو استئنافية ، وفي مصاحف أهل الشام (ما كُنَّا) بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى ، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك ؛ وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقرابة ، وقوله سبحانه : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهمالسلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء ، وقيل : تعليل لهدايتهم.
والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل ، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك ، ودونك