مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات ، ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض ، ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه ، ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الاحتياج إلى أحدها.
ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المنى واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور الحسية وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت اندفاعه ، وقد يكون ذلك التوجه والاعتياد لا لغلبة المنيّ ، فلهذا قد لا يندفع به شيء ، وقد يعرض للروح اضطراب وتحريك من الأسباب الخارجة والداخلة فترى أمورا متغيرة متفرقة غير منضبطة فربما يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج ، وقد يكون ذلك لاتصالات فلكية وأوضاع سماوية ، فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع.
وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجا ومن كان مع ذلك منقطعا عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتادا للصدق متوجها إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها ، ومن هنا قالوا : لا اعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة.
وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتألهين والصوفية المنكرين لارتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صورا خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت ، وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك ، وقالوا : فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين ، أما لعالم الملك فلأنها صور جسمانية شبحية ، وأما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة بمكان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صورا مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية ، ثم ان لتلك الصور مجالي مختلفة كالمرايا والماء الصافي ، والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا انقطعت عن الاشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية ، وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهمالسلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضا ، ولهذا كان النبي صلىاللهعليهوسلم يشاهد جبريل عليهالسلام حينما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لا يشاهدونه. هذا واستشكل قول المتكلمين : إن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها. وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء. وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح قوله عليه الصلاة والسلام : «من رآني في المنام فقد رآني» الحديث أنه ليس المراد بقوله عليه الصلاة والسلام فقد رآني رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه ، ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل ، فالشكل المرئي ليس روحه صلىاللهعليهوسلم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق ، وكذا رؤيته سبحانه نوما فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته