لا منافاة لجواز تطابق الجوابين. وقول شيخ الإسلام : إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء ، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم ، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم : ما ذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه ، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام ، وأمر موسى عليهالسلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهده ثم أنهم اختلفوا في قوله تعالى : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) فقيل : إنه من تتمة كلام الملأ ، واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل ، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم ، وقال الفراء. والجبائي : إن كلام الملأ قد تم عند قوله سبحانه : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ثم قال فرعون : فما ذا تأمرون قالوا : أرجه ، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه. ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه. ثم قال : وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من كلام فرعون وقوله : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) كلام الملأ. لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) كلام فرعون للملإ. وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون ، ولعلهم يحملون على أنه قاله لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى. ويمكن أن يقال : إن الملأ لما رأوا من موسى عليهالسلام ما رأوا قال بعضهم لبعض : إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فما ذا تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضا بما عنده مثل ما قالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا : أرجه وأخاه ، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم ، وحكى في الشعراء كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة ، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى ، ويكون هاهنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) أي البلاد جمع مدينة ، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به ، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع ، وأريد بها مطلق المدائن ، وقيل : مدائن صعيد مصر (حاشِرِينَ) أي رجالا يجمعون السحرة ، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة ، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة ، وحكى في القاموس فتحها أيضا ، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع ، ونصب الوصف على أنه صفة المحذوف ومفعوله محذوف أيضا كما أشير إليه ، وقد نص على ذلك الاجهوري (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب.
وقرأ حمزة والكسائي «سحار» وجاء فيه الإمالة وعدمها وهو صيغة مبالغة ، وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت ، وقيل : الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر والسحار هو المنتهي الذي يتعلم منه ذلك (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) بعد ما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للايذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال.
واختلف في عدتهم. فعن كعب أنهم اثنا عشر ألفا ، وعن ابن إسحاق خمسة عشر ألفا ، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفا ، وفي رواية تسعة عشر ألفا ؛ وعن السدي بضعة وثلاثون ألفا ، وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفا ، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفا. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال : السحرة ثلاثمائة من قومه وثلاثمائة من العريش ويشكون في ثلاثمائة من الاسكندرية.