القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر أنها تسرح في رياض جمال المحبوب ، وأنشد :
مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم |
|
فهم أنفس عاشوا بغير قلوب |
و (الْعامِلِينَ) هم أهل التمكين من العارفين وأهل الاستقامة من الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والانبساط ، فيأخذون منه سبحانه ويعطون له ، وهم خزان خزائن جوده المنفقون على أوليائه ، قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى الثرى (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) هم المريدون السالكون طريق محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال (وَفِي الرِّقابِ) هم الذين رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود فتارة تراهم في لجج بحر الإرادة ، وأخرى في سواحل بحر القرب ، وطورا هدف سهام القهر ، ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم بقية من المجاهدة والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما وراء ذلك وقليل ما هم.
أتمنى على الزمان محالا |
|
أن ترى مقلتاي طلعة حر |
(وَالْغارِمِينَ) هم الذين ما قضوا حقوق معارفهم في العبودية وما أدركوا في إيقانهم حقائق الربوبية والمعرفة غريم لا يقضي دينه (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) هم المحاربون نفوسهم بالمجاهدات والمرابطون بقلوبهم في شهود الغيب لكشف المشاهدات (وَابْنِ السَّبِيلِ) هم المسافرون بقلوبهم في بوادي الأزل وبأرواحهم في قفار الأبد وبعقولهم في طرق الآيات وبنفوسهم في طلب أهل الولاية (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) على أهل الإيمان أن يعطوا هؤلاء الأصناف من مال الله سبحانه لدفع احتياجهم الطبيعي (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال هؤلاء وغيبتهم عن الدنيا (حَكِيمٌ) حيث أوجب لهم ما أوجب ، ومن الناس من فسر هذه الأصناف بغير ما ذكر ولا أرى التفاسير بأسرها متكلفة بالجمع والمنع (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) عابوه عليه الصلاة والسلام وحاشاه من العيب بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع ، فصدقهم جل شأنه ورد عليهم بقوله سبحانه : (قُلْ) هو (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي هو كذلك لكن بالنسبة إلى الخير ، وهذا من غاية المدح فإن النفس القدسية الخيرية تتأثر بما يناسبها ، أي إنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره ، ثم بين ذلك بقوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) إلخ ، وقد غرهم ـ قاتلهم الله تعالى حتى قالوا ما قالوا ـ كرم النبي صلىاللهعليهوسلم حيث لم يشافههم برد ما يقولون رحمة منه بهم ، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الواسعة ، وعن بعضهم أنه سئل عن العاقل فقال : الفطن المتغافل وأنشد :
وإذا الكريم أتيته بخديعة |
|
فرأيته فيما تروم يسارع |
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا |
|
إن الكريم لفضله متخادع |
(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي هم متشابهون في القبح والرداءة وسوء الاستعداد (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي يبخلون أو يبغضون المؤمنين فهو إشارة إلى معنى قوله سبحانه : (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩] أو لا ينصرون المؤمنين أو لا يخشون لربهم ويرفعون أيديهم في الدعوات (نَسُوا اللهَ) لاحتجابهم بما هم فيه (فَنَسِيَهُمْ) من رحمته وفضله (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) وهو عذاب الاحتجاب بالسوى (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هي جنات النفوس (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) إشارة إلى