كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق إلخ. والمقصود من ذلك الإلزام ، والهمزة على هذا متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور.
وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق ، وإما بمعنى حقيق كما اختاره أبو حيان ، وهو خبر عن الموصول ، والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين ، وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه : (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٩] والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير ، و (أَنْ يُتَّبَعَ) في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع (إِلَّا أَنْ يُهْدى) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير ، وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزير والملائكة عليهمالسلام دون الأوثان لأن الاهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهما أن المراد الأوثان ، ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم ، وقيل : المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وهو من قولك : هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل : الآية الأولى (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهمالسلام وهذه في رؤساء الضلالة كالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابا من دون الله وليس بالبعيد فيما أرى ، ويؤيده التعبير بالاتباع فإنه يقتضي العمل بأوامرهم والاجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف ، وهو وإن عقل في أشراف شركائهم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير واتباعهم في ذلك لا ينعي على أحدهم اللهم إلا أن يقال : إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم اتباعهم لهم في ذلك ، وعير بالاتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدي مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث إنهم لا يهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الاتباع لم تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح والله تعالى أعلم. وقرئ إلا أن «يهدّى» مجهولا مشددا دلالة على المبالغة في الهداية (فَما لَكُمْ) أي أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء لله سبحانه وتعالى ، والكلام مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب.
وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] لعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل : فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عزوجل (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) في موضع الحال لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا بل هو استفهام آخر للإنكار التعجب أيضا أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من اتخاذ الشركاء لله جل وعلا ، والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يتلفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها ، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم