والواحدي ، وابن الجوزي ، وغيرهم. واستشكل ذلك بأن النبي صلىاللهعليهوسلم مدح هذه القبائل ودعا لبعضها. فقد أخرج الشيخان ، وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «قريش ، والأنصار ، وجهينة ، ومزينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره» وجاء عنه أيضا أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «أسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى». وأجيب بأن ذلك باعتبار الأغلب منهم (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ) فيكون كالمعطوف عليه خبرا عن ـ المنافقون ـ كأنه قيل : المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة ، وهو من عطف مفرد على مفرد ويكون قوله سبحانه : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به أو صفة لمنافقون ، واستبعده أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة وموصوفها ، وجوز أن يكون (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) خبر مقدم والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا ، وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أوفى مقدم عليه مقيس شائع نحو ـ منا أقام ومنا ظعن. وفي غير ذلك ضرورة أو نادر ، ومنه قول سحيم :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا |
|
متى أضع العمامة تعرفوني |
على أحد التأويلات فيه ، وأصل المرود على ما ذكره علي بن عيسى الملاسة ومنه صرح ممرد ، والأمرد الذي لا شعر على وجهه ، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا ، وقال ابن عرفة : أصله الظهور ومنه قولهم : شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت عيدانها ، وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو مارد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ، وفسروه بالاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ماهرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من بلوغ الغاية ، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر.
وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة واستظهر ذلك ، وقيل : إنه الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الأعراب المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله للفريقين ؛ ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا اقتضى الأشدية فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) بأهل الحضر ، ولعل المراد تفضيل المجموع على المجموع أو يلتزم عدم الاقتضاء.
وقوله تعالى : (لا تَعْلَمُهُمْ) بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم ، وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم عليه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم ، ولا حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفعولين وتقدير المفعول الثاني أي لا تعلمهم منافقين ، وقيل : المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالا ، وما ذكرناه لما فيه من المبالغة ما فيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من وهم لا سيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة ، وقد فسر العلم هنا بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عنه أبو الشيخ. نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير أولى من التقدير.
والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لا يقف على سرائرهم المركوزة فيهم إلا ما لا تخفى عليه