لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه وجواب (إِنْ) محذوف لدلالة المذكور عليه ، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام تحدى مصاقع العرب بسورة ما منه فلم يأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند الله تعالى قطعا فإنه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلىاللهعليهوسلم كان مخصوصا بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازا بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم ، وقد جاء من بعض الطرق أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» وأجيب بأنه صلىاللهعليهوسلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن الله تعالى شأنه وعزت قدرته محض اللسان العربي وألقى زبدته على لسانه صلىاللهعليهوسلم فما من خطيب يقاومه إلا نكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلىاللهعليهوسلم لا يشبه ما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديما وحديثا.
وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهرا من تسليم كون كلامه عليه الصلاة والسلام معجزا لا تستطاع معارضته وحينئذ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائرا بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلىاللهعليهوسلم ولا يثبت كونه كلام الله عزوجل إلا بضم امتيازه على كلامه صلىاللهعليهوسلم والزاعم لم يدع إلا عدم لزوم كونه من عند الله تعالى قطعا من عجزهم عن الإتيان بذلك ، وأيضا ينافي هذا التسليم ما تقدم في بيان حاصل (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفصاحة إلخ ، ومن هنا قيل : الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلىاللهعليهوسلم مع كونه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل. وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام ، وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من انجاب عن عين بصيرته الغين (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) قيل : هو إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن عدم علمهم بكنه أمره والاطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروي عن الحسن وعليه محققو المفسرين ، وقيل : هي عبارة عما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية ، والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بسورة مثله ، والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال : بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له ، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه ، فالتأويل نوع من التفسير ، والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف ، ولعل اختياره للإشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إليها بنفسها ، وجوز أن يراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنى الحقيقي عند بعض فإتيانه حينئذ مجاز عن تبينه وانكشافه ، أي ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب. والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة ، ونفي إتيان التأويل بكلمة (لَمَّا) الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة ـ لم ـ لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا.