المنع فإن الإلزام بعد التحدي وذلك القول قبله ، وكونه مسبوقا بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية.
نعم ربما يقال في الاستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور ، وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولا الإشارة إلى نسبة الافتراء إلى سيد الصادقين صلىاللهعليهوسلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك ، والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة ، وقد تخلل رد ما أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعلموا الحق لكنهم لم يقروا به عنادا وبغيا فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلم ولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في إلزامهم فإن هذا التحدي أظهر في الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر ، لكن للمناقشة في هذا مجال ، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الإضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علما وأن الوقوف على العلم به متوقع سواء كان قرآنا أو غيره ـ فما ـ عامة للأمرين ويدخل القرآن في العموم دخولا أوليا ولعله أولى مما قيل : إنه إضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى ـ بل ـ هذه فصيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن يأتوا بل كذبوا إلخ (كَذلِكَ) أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) خطاب لسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم ويحتمل أن يكون عاما لكل من يصلح له ، والمراد بالظالمين الذين من قبلهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الذين حكي عنهم ما حكي في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا ، والفاء لترتيب ما بعدها على محذوف ينساق إليه الكلام أي فأهلكناهم فانظر إلخ ، وكيف في موضع نصب خبر كان ، وقد يتصرف فيها فتوضع موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية ، وهي هنا تحتمل ذلك ، وكذا قول البخاري رضي الله تعالى عنه : ـ كيف كان بدء الوحي ـ كما قال السمين ، ونقل عنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كل موضع معاملة الاستفهام المحض (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) وصف لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع كما قيل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن به ضرورة امتناع الإيمان بشيء من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين ، ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وإما الإيمان الحقيقي أي منهم من سيؤمن به ويتوب عن الكفر (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي أو لسخافة عقله واختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أو لا يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لاشتراكهما في أصل الإفساد المستدعي لاشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة ، وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصل فلا يصح فيه الاستقبال المفاد بالشرط ، وأيضا جوابه وهو قوله سبحانه : (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الإصرار على التكذيب واليأس من الإجابة ، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا ، وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل ، وقوله سبحانه : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامله أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، وعلى هذا فالآية محكمة غير