إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل ، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول (وَأَسَرُّوا) أي النفوس المدلول عليها بكل نفس ، والعدول إلى صيغة الجمع لإفادة تهويل الخطب بكون الأسرار بطريق المعية والاجتماع ، وإنما لم يراع ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كون جمع ما في الأرض لكل واحد من النفوس ، وإيثار صيغة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إنائه ، والأسرار الإخفاء أي أخفوا (النَّدامَةَ) أي الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم ، والمراد إخفاء آثارها كالبكاء وعض اليد وإلا فهي من الأمور الباطنة التي لا تكون إلا سرا وذلك لشدة حيرتهم وبهتهم (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يمر لهم ببال ، فأشبه حالهم حال المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من الخطب ويغلب حتى لا يستطيع التفوه ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا ، وقيل : المراد بالأسرار الإخلاص أي أخلصوا الندامة وذلك إما لأن إخفاءها إخلاصها وإما من قولهم : سر الشيء لخالصه الذي من شأنه أن يخفى ويصان ويضن به وفيه تهكم بهم : وقال أبو عبيدة. والجبائي : إن الأسرار هنا بمعنى الإظهار. وفي الصحاح أسررت الشيء كتمته وأعلنته أيضا وهو من الأضداد ، والوجهان جميعا يفسران في قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) وكذلك في قول امرئ القيس :
لو يسرون مقتلي
انتهى وفي القاموس أيضا أسره كتمه وأظهره ضد ، وفيه اختلاف اللغويين فإن الأزهري منهم ادعى أن استعمال أسر بمعنى أظهر غلط وأن المستعمل بذلك المعنى هو أشهر بالشين المعجمة لا غير. ولعله قد غلط في التغليط ، وعليه فالإظهار أيضا باعتبار الآثار على ما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون المراد بالإسرار الإخفاء إلا أن المراد من ضمير الجمع الرؤساء أي أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم ، وفيه أن ضمير (أَسَرُّوا) عام لا قرينة على تخصيصه على أن هول الموقف أشد من أن يتفكر معه في أمثال ذلك ، وجملة (أَسَرُّوا) مستأنفة على الظاهر وقيل : حال بتقدير قد ، و (لَمَّا) على سائر الأوجه بمعنى حين منصوب بأسروا ، وجوز أن يكون للشرط والجواب محذوف على الصحيح لدلالة ما تقدم عليه أي لما رأوا العذاب أسروا الندامة (وَقُضِيَ) أي حكم وفصل (بَيْنَهُمْ) أي بين النفوس الظالمة (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). أصلا لأنه لا يفعل بهم إلا ما يقتضيه استعدادهم ، وقيل : ضمير (بَيْنَهُمْ) للظالمين السابقين في قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) والمظلومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر لكن الظلم يدل بمفهومه عليهم وتخصيص الظلم بالتعدي ، والمعنى وقعت الحكومة بين الظالمين والمظلومين وعومل كل منهما بما يليق به. وأنت تعلم أن المقام لا يساعد على ذلك لأنه إن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولا أوليا ، والظاهر أن جملة (قُضِيَ) مستأنفة ، وجوز أن تكون معطوفة على جملة (رَأَوُا) فتكون داخلة في حيز لما (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الإجرام العظيمة داخلا في حقيقتها أو خارجا عنها متمكنا فيها ، وكلمة (ما) لتغليب غير العقلاء على العقلاء ، وهو تذييل لما سبق وتأكيد واستدلال عليه بأن من يملك جميع الكائنات وله التصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل : إنه متصل بقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئا حيث أفاد أن جميع ما في السماوات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة واقتصر عليه (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ)