وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل و (مِنْ) ابتدائية أو تبعيضية أو لله تعالى شأنه و (مِنْ) الثانية مزيدة وابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث. وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقا بما عنده ، والتزام تعلقه بمحذوف وقع صفة لمصدر كذلك في جميع الاحتمالات مما لا حاجة إليه. نعم اللازم بناء على المشهور أن لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق واحد ، وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و «من» الأولى للأجل كما في قوله سبحانه : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥] و (مِنْ) الثانية مزيدة وما بعدها مفعول به ـ لتتلو ـ وله وجه ، ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير (مِنْهُ) للشأن إما على تقدير ما تتلو حال كون القراءة بعض شئونك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أي وما تتلو من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه (مِنْ) الأجلية أو نحوها ، وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب ، ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى «هذا» ثم إن القرآن عام للمقروء كلّا وبعضا وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه ، والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) أي أي عمل كان ، والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنساني وسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهم وفاجرهم لا الأخيرين فقط ، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير ، وقيل : الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا ، ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده ، ولعل تقديمه للاهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين ، وكأنه للمبالغة فيه جيء بضمير العظمة ، وأن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي تشرعون فيه وتتلبسون به ، وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة ، وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضا أوثر في الاستثناء صيغة الماضي ، وفي الظرف كلمة (إِذا) التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل ، ولم أر من تعرض لبيان وجه اختيار النفي ـ بما ـ التي تخلص المضارع للحال عند الجمهور عند انتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي ـ بلا ـ التي تخلص المضارع للاستقبال عند الأكثرين خلافا لابن مالك في الجملة الثالثة ، ولعل ذلك من آثار اختلاف الخطاب خصوصا وعموما فتأمله فإنه دقيق جدا (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أي ما يبعد وما يغيب ، ومنه يقال : الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيدا من الناس ، والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عزوجل أو هو كناية عن ذلك ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم من الإشعار باللطف ما لا يخفى.
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب بكسر الزاي (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ مِنْ) مزيدة لتأكيد النفي ، والمثقال اسم لما يوازن الشيء ويكون في ثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطا. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر ، والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلاما فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال : أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام. والذرة واحدة الذر وهو النمل الأحمر الصغير ، وسئل ثعلب عنها فقال : إن مائة نملة وزن