أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضا لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها ، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر ، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر ، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك ، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلا ، أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه ، فصرف جوابه عليهالسلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله ؛ وكون ذلك إعراضا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز.
وأما ثانيا فلأن التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليهالسلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة ، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش ، وأما ثالثا فلأن قوله عزوجل : (قالُوا أَجِئْتَنا) إلخ مسوق لبيان أنه عليهالسلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه عليهالسلام فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلىاللهعليهوسلم على طريقة (قالَ مُوسى) كما أشير إليه كأنه قيل : فما ذا قالوا لموسى عليهالسلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل : قالوا عاجزين عن المحاجة : أجئتنا (لِتَلْفِتَنا) أي لتصرفنا ، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبا من الآخر كما قال الأزهري (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي من عبادة غير الله تعالى ، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليهالسلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليهالسلام خاليا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة ، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم : (أَجِئْتَنا) إلخ وبين إنكاره عليهالسلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جوابا عنه ، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات ، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أي الملك كما روي عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وقيل : أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم. وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر ، وزيد عن يعقوب «يكون» بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل.
(فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر ، وقيل : أريد الجنس ، والجار متعلق ـ بتكون ـ أو الكبرياء أو بالاستقرار في ـ لكما ـ لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من (الْكِبْرِياءُ) أو من الضمير في (لَكُمَا) لتحمله إياه (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين فيما جئتما به أصلا ، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق ، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهماالسلام ، وإنما لم يفردوا موسى عليهالسلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافه لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيما لأمر ما هو أحد سببي الإعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى عليهالسلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به ، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء لهما عليهماالسلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر ، وأما اللفت والمجيء له فحيث