واضح على أن المراد (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٥] أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر إلى غير ذلك مما لا يخفى على الناظر في كلامه قدسسره ، فالذي ينبغي أن يعول عليه ما ذهب أولا إليه ، وقد قالوا : إذا اختلف كلام إمام يؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها ، ولا شك أن ما ذهب إليه أولا هو الموافق لذلك ، على أنه لو لم يكن له قدسسره إلا القول بقبول إيمانه لا يلزمنا اتباعه في ذلك والأخذ به لمخالفته ما دل عليه الكتاب والسنة وشهدت به أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين ، وجلالة قائله لا توجب القبول ، فقد قال مالك ، وغيره : ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه : لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، وكأن الشيخ قدسسره قال ذلك من طريق النظر والنظر يخطئ ويصيب ، وعن علم أن للنبي عليه الصلاة والسلام اجتهادا جاء الوحي بخلافه لم يستعظم ما قيل في الشيخ وإن كان هو ـ هو ـ على أنه لو كان قال ذلك من طريق الكشف إلا أنه أبدى الاستدلال تفهيما وإرشادا إلى أن فهمه لم يخالف ما يدل عليه الكتاب لم يلزمنا أيضا تقليده بل قد مر عن الإمام الرباني قدسسره أنه لا يجوز تقليد الكشف ، وصرح غير واحد بأنه ليس بحجة على الغير كالإلهام ولا يثبت به حكم شرعي. وأنت تعلم أنه لو كان كل من القولين من طريق الكشف يلزم انقسام الكشف إلى صواب وخطأ كالنظر ضرورة عدم اجتماع الإيجاب والسلب على الكذب ولا على الصدق وهو ظاهر ، وقد قال بعضهم : بالانقسام ويخفى وجهه ، ومن الناس من أول كلام الشيخ المثبت لقبول الإيمان بأن المراد بفرعون فيه النفس الأمارة وبموسى وهارون المأمورين بالقول اللين موسى الروح وهارون القلب وأخذ يقرر الكلام على هذا السنن ، ولا يخفى أن ارتكاب ذلك على ما فيه من التكلف الظاهر الكلف في كلام الشيخ ما يأباه ولعله خلاف مطمح نظره ولذلك لم يرتكبه أجلة أصحابه بل أبقوا كلامه على ظاهره وهو الظاهر ، وإكفار بعض المنكرين له فيه ضلال وأي ضلال وظلم عظيم موجب للنكال ، فإن له قدسسره في ذلك مستندا كغيره المقابل له وإن اختلفا في القوة والضعف ، على أن الوقوف على حقيقة هذه المسألة ليس مما كلفنا به فلا يضر الجهل بها في الدين والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم أثر نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها ، وبوأ بمعنى أنزل كأباء والاسم منه البيئة بالكسر كما في القاموس ، وجاء بوأه منزلا وبوأه في منزل وكذا بوأت له مكانا إذا سويته ، وهو مما يتعدى لواحد ولاثنين أي أنزلناهم بعد أن أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي منزلا صالحا مرضيا وهو اسم مكان منصوب على الظرفية ، ويحتمل المصدرية بتقدير مضاف أي بمكان مبوأ وبدونه ، وقد يجعل مفعولا ثانيا ، وأصل الصدق ضد الكذب لكن جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا : رجل صدق مثلا إذا كان كاملا في صفته صالحا للغرض المطلوب منه كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق ، والمراد بهذا المبوأ كما رواه ابن المنذر. وغيره عن الضحاك الشام ومصر ، فإن بني إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى عليهالسلام وهم المرادون هنا ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء.
وأخرج أبو الشيخ ، وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس واختاره بعضهم بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك ، وأنت تعلم أنه ينبغي أن يراد ببني إسرائيل عن القولين ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى عليهالسلام وإنما دخلها أبناؤهم وقد تقدم لك ما يتعلق بهذه المقام فتذكره.
وقيل : المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام ، وببني إسرائيل بنو إسرائيل الذين كانوا على عهد نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ ؛ قيل : وقد يفسر بالحلال (فَمَا اخْتَلَفُوا) في