مراجعة من يزيلها من أهل العلم بل المسارعة إلى ذلك حسبما تدل عليه الفاء الجزائية بناء على أنها تفيد التعقيب (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) الواضح الذي لا محيد عنه ولا ريب في حقيته (مِنْ رَبِّكَ) القائم بما يصلح شأنك (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) أي بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل ، والامتراء الشك والتردد وهو أخف من التكذيب فلذا ذكر أولا ، وعقب بقوله سبحانه : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي بشيء منها (فَتَكُونَ) بذلك (مِنَ الْخاسِرِينَ) أنفسا وأعمالا ، والتعبير بالخاسرين أظهر في التحذير من التعبير بالكافرين ، وفائدة النهي في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر ، والمراد بذلك إعلام أن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما فكيف بمن يمكن اتصافه وفيه قطع لأطماع الكفرة.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) إلخ بيان لمنشإ إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال إلى حيث لا ينتفعون بالإيمان أي إن الذين ثبتت عليهم (كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي حكمه وقضاؤه المفسر عند الأشاعرة بإرادته تعالى الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال بأنهم يموتون على الكفر أو يخلدون في النار (لا يُؤْمِنُونَ) إذ لا يمكن أن ينتقض قضاؤه سبحانه وتتخلف إرادته جل جلاله (لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) واضحة المدلول مقبولة لدى العقول (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الإغراق ونحوه وحينئذ يقال لهم ـ الصيف ضيعت اللبن ـ وفسر الزمخشري بقول الله تعالى الذي كتبه في اللوح وأخبر سبحانه به الملائكة أنهم يموتون كفارا وجعل تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد ، ولا ضير في تفسير الكلمة بذلك إلا أن جعل الكتابة كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد مبني على مذهب الاعتزال ، والذي عليه أهل السنة أن أفعال العباد بأسرها معلومة له تعالى ومرادة ولا يكون إلا ما أراده سبحانه ، وعلمه عز شأنه وإرادته متوافقان ولا تجوز المخالفة بينهما ولا يتعلق علمه سبحانه إلا بما عليه الشيء في نفسه ولا يريد إلا ما علم ولا يقدر إلا ما يريد ولا جبر هناك ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وفسره المولى الكوراني في شرحه للمقدمات الأربع المذكورة في توضيح الأصول بأن العبد مجبور باختياره وفصله بما لا مزيد عليه ، وبإثبات الاستعداد وأنه غير مجعول تتضح الحجة البالغة وبسط الكلام في علم الكلام ، وقد تقدم بعض ما ينفع في هذا المقام ، وإن أردت ما يطمئن به الخاطر وتنشرح له الضمائر فعليك برسائل ذلك المولى في هذا الشأن فإنها واضحة المسالك في تحصيل الإيقان (فَلَوْ لا كانَتْ) كلام مستأنف لتقرير هلاكهم ولو لا هنا تحضيضية فيها معنى التوبيخ كهلا ومثلها ما في قول الفرزدق :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم |
|
بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنعا |
ويشهد لذلك قراءة أبي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما «فهلا» ، والتوبيخ على ما نقل عن السفاقسي على ترك الإيمان المذكور بعد ، «وكان» كما اختاره بعض المحققين ناقصة ، وقوله تعالى : (قَرْيَةٌ) اسمها ، وجملة قوله سبحانه : (آمَنَتْ) خبرها ، وقوله جل شأنه : (فَنَفَعَها إِيمانُها) معطوف على الخبر ، أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكت هلاك الاستئصال آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما أخر فرعون إيمانه فنفعها ذلك بأن يقبله الله تعالى منها ، ويكشف بسببه العذاب عنها ، وذهب السمين وغيره إلى أنها تامة و (قَرْيَةٌ) فاعلها وجملة (آمَنَتْ) صفة «ونفعها» معطوفة عليها. وتعقب بأنه يلزم حينئذ أن يكون التحضيض والتوبيخ على الوجود مع أنه ليس بمراد. وأجيب بأنه لا مانع من أن يكون التحضيض على الصفة وحينئذ لا غبار على ما قيل ، وأيا ما كان