وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداع تلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكة ولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد الله تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه ، وقوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ) إلخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وأنه لا معول إلا عليه عز شأنه ، وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان إلخ لا يخفى ما فيه. وقد ذكر نحو هذا الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية ، ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلىاللهعليهوسلم من الالتفات إلى غيره في إقباله عليه سبحانه بقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من الحدثان ، وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المعرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله ، ثم إنه تعالى زاد تأكيدا للإقبال عليه والإعراض عما سواه بقوله جل شأنه : (وَلا تَدْعُ) إلخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها. ومن هنا قال شقيق البلخي : الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز ذلك إقامة نفسه كيف يقيم غيره ، وقرر ذلك بقوله تعالى : وإن يمسسك إلخ.
ومن ذلك قال ابن عطاء : إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلا منه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع ؛ وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك الله بضر الحجاب فلا كاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الأزل بالوصال لا يحتجب بشيء من الأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر هذا ولعله مغن عن الكلام من باب الإشارة في الآيات حسبما هو العادة في الكتاب (قُلْ) يا أيها الرسول مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحي إليك أو للمكلفين مطلقا كما قال الطبرسي (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر ، وقيل : المراد من الحق النبي صلىاللهعليهوسلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن (الْحَقُ) هو ما دل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) إلخ وهو كما ترى (فَمَنِ اهْتَدى) بالإيمان والمتابعة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي منفعة اهتدائه لها (وَمَنْ ضَلَ) بالكفر والإعراض (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي فوبال ضلاله عليها ، وقيل : والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة والسلام من جلب نفع ودفع ضر ، ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته صلىاللهعليهوسلم (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير ، وفي الآية إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف (وَاتَّبِعْ) في جميع شئونك من الاعتقاد والعمل والتبليغ (ما يُوحى إِلَيْكَ) على نهج التجدد والاستمرار ، والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلىاللهعليهوسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي ، وإذا أريد من الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدا (وَاصْبِرْ) على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر ، وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه ، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلىاللهعليهوسلم ووعد المؤمنين والوعيد للكافرين والحمد لله تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين.