الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه فهو سبحانه يسوقه إليها ولا بد إلى أن ينتهي أمد احتياجها ، وجوز في هذه الجملة أن تكون استئنافا بيانيا وأن تكون معطوفة على جملة (عَلَى اللهِ رِزْقُها) داخلة في حيز (إِلَّا) وعليه اقتصر الأجهوري.
(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها ، أو كل ما ذكر وغيره مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهمالسلام ، أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين ، والجملة ـ على ما قال الطيبي ـ كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقر بشيء في ذمته ثم كتب عليه صكا ، وفي الكشف إن الأظهر أنها تحقيق للعلم وكأنه تعالى لما ذكر أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه ، ثم أتى سبحانه بما يدل على عظيم قدرته جل شأنه من قوله تبارك وتعالى :
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) تقريرا للتوحيد لأن من شمل علمه وقدرته هو الذي يكون إلها لا غيره مما لا يعلم ولا يقدر على ضر ونفع وتأكيدا لما سبق من الوعد والوعيد لأن العالم القادر يرجى ويخشى ، وجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله سبحانه : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وما بعدها تقريرا لقوله سبحانه : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وفيه بعد ، وكأن المراد بخلق السماوات والأرض إلخ خلقهما وما فيهما ، أو تجعل السماوات مجازا عن العلويات فتشملها وما فيها ، وتجعل الأرض مجازا بمعنى السفليات فتشملها وما فيها من غير تقدير ، واحتيج لذلك لاقتضاء المقام إياه وإلا فخلقهما في تلك المدة لا ينافي خلق غيرهما فيها ، والمراد باليوم الوقت مطلقا لا المتعارف إذ لا يتصور ذلك حين لا شمس ولا أرض ، وقيل أريد به مدة زمان دور المحدد المسمى بالعرش دورة تامة ، وإليه ذهب الشيخ الأكبر قدسسره ، وقد علمت حاله فيما تقدم ، وقيل : غير ذلك.
وفي عدم خلقهما دفعة كما علمت دليل ـ كما قال غير واحد ـ على كونه سبحانه قادرا مختارا مع ما فيه من الاعتبار للنظار والحث على التأني في الأمور ، وقد تقدم ما قيل في وجه تخصيص هذا العدد دون الزائد عليه كالسبعة أو الناقص عنه كالخمسة للخلق ، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر ، وإيثار صيغة الجمع في السماوات لاختلافها بالأصل والذات دون الأرض ، وإن قيل : إنها مثل السماء في كونها سبعا طباقا بين كل أرض وأرض مسافة وفيها مخلوقات ، وبذلك فسر قوله سبحانه : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ٢] والكثير على أن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وحملوا الآية على ذلك.
(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) عطف على جملة (خَلَقَ) مع ضميره المستتر أو حال من الضمير بتقدير قد على ما هو المشهور في الجملة الحالية الماضوية من اشتراط قد ظاهرة أو مقدرة ؛ والمضي المستفاد ـ من كان ـ بالنسبة للحكم لا للتكلم أي كان عرشه على الماء قبل خلقهما وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد ، وبه صرح القاضي البيضاوي ، ثم قال : لم يكن حائل بينهما أي العرش والماء لا أنه كان موضوعا على متن الماء ، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من اجرام هذا العالم انتهى ، وكذا صرح به العلامة أبو السعود مفتي الديار الرومية لكنه قال : ليس تحته ـ يعني العرش ـ شيء غيره أي الماء سواء كان بينهما فرجة ، أو موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى ، ولا يخفى ما بين القاضي والمفتي من المخالفة ، والأكثرون على أن الحق مع المفتي كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.