وجاء حديث كون الماء على متن الريح عن ابن عباس ، وقد أخرج ذلك عنه ابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وغيرهم ، وإباء ما ذكر عن كون الماء بمعنى صفة الحياة له تعالى ظاهر ، ومثله ما أخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه قال : كان عرشه سبحانه على الماء فلما خلق السماوات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش ـ وهو البحر المسجور ـ فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور فينزل منه مثل الطل فتنبت منه الأجسام ، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى ، ولعل وجه الأمر بالتدبر في كلام هذا الفاضل الإشارة إلى ما ذكرنا.
وبالجملة لا شك أن المتبادر من الماء ما هو أحد العناصر ومن العرش الجسم الذي جاء في الأخبار من وصفه ما يبهر العقول وشهادة الخبر السابق مع كونها شهادة نفي عارضتها شهادات إثبات غير نص في المطلوب كما علمت ، ومن كون العرش على الماء ما يعم الشقين كونه موضوعا على متنه مماسا له وكونه فوقه من غير أن يكون بينهما ما يماسهما ، وتخصيصه بالشق الثاني مما لا يتم له دليل ولا يصفو عن القال والقيل ، وأن الآية لا تصلح دليلا على كون الماء أول حادث بعد العرش ، ومن رجع إلى الأخبار المعول عليها رأى بعضها كخبر أبي رزين الذي حسنه الترمذي ظاهرا في أن الماء قبل العرش وقصارى ما يقال في هذا المقام : إن الحق مع شيخ الإسلام وإن نصرة القاضي ـ وإن كان ناصر الدين ـ نصرة خارجة عن الطريق المستبين ، فلا تلتفت هداك الله سبحانه إلى من أطال في ذلك بلا طائل ، وأتى بكلام لا يشبه كلام عاقل ، وزعم أن ذاك من الحكمة وهو عنها ـ علم الله ـ بمراحل ، ولو لا الوقوع في العبث لنقلناه ونبهنا على ما فيه ، وإن كان حال ظاهره مؤذنا بحال خافيه ، نعم قد يقال : إن البيضاوي إنما ذكر أنه استدل بالآية على كذا وكذا ، ولم يدّع أن فيها دليلا على ذلك ، فما يتوجه من الاعتراضات إنما يتوجه على المستدل دونه وكأن من وجه إليه ذلك ادعى ارتضاءه للاستدلال بدليل ما وطأه له من المقال ، وزعم الجبائي أن في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض حي مكلف لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف بمكلف يمكنه الاستدلال به ، ورده على ابن عيسى بأنه لا يلزم ذلك ويكتفي بكون الإخبار به نافعا للمكلفين واختاره المرتضى ، ومنشأ ذلك الاعتزال ، والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
(لِيَبْلُوَكُمْ) اللام للتعليل مجازا متعلقة ب (خَلَقَ) أي خلق السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادئ وجودكم وأسباب معاشركم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم.
(أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فيجازيكم حسب أعمالكم ، وقيل : متعلق بفعل مقدر أي أعلم بذلك (لِيَبْلُوَكُمْ) وقيل : التقدير وخلقكم (لِيَبْلُوَكُمْ) وقيل : في الكلام جملة محذوفة أي وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الآخرة وفعل ذلك (لِيَبْلُوَكُمْ) والكل كما ترى ، والابتلاء في الأصل الاختبار والكلام خارج مخرج التمثيل والاستعارة ، ولا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور.
وقيل : إنه مجاز مرسل عن العلم للتلازم بين العلم والاختبار ، وهو محوج إلى تكلف أن يراد ليظهر تعلق علمه الأزلي ، وإلا فالعلم القديم الذاتي ليس متفرعا على غيره ، وما تقدم لا تكلف فيه ، وهو مع بلاغته مصادف محزه ، والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل القالب ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (لِيَبْلُوَكُمْ) إلخ فقلت :