كل توقع نظير هذا التوقع ، وقيل : إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشائية قائمة به ، وتارة للمخاطب ، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به ، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار ، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحي إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه ، وقيل : إن ـ لعل ـ هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد ، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب : لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه ، فالمعنى لا تترك ، وقيل : إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث «لعلنا أعجلناك» واختار السمين. وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفا ، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحي إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني ، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه ، نعم قيل : لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد والضرب والطعان ـ لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال ـ صح لكن في الكشف بعد كلام : اعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلىاللهعليهوسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام ، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣] تقضي العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا : إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله ، والضمير في قوله سبحانه : (وَضائِقٌ بِهِ) لما يوحى أو للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان ، وقيل : للتبليغ أو للتكذيب ، وقيل : هو مبهم يفسره أن يقولوا ، والواو للعطف (وَضائِقٌ) قيل : عطف على (تارِكٌ) وقوله تعالى : (صَدْرُكَ) فاعله ، وجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما و (صَدْرُكَ) مبتدأ والجملة معطوفة على (تارِكٌ) ، وقيل : يتعين أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف ، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع ، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد ، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى ـ ضائق ـ اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلىاللهعليهوسلم أحيانا ، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد وجواد وسمين مثلا : سائد وجائد وسامن ، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه :
بمنزلة أما اللئيم «فسامن» بها وكرام الناس باد شحوبها
وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع ، وقيل : إن العدول لمشاركة (تارِكٌ) وليس بذلك. (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أي مال كثير ، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء ، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لو لا أعطي ذلك ليتحقق عندنا صدقه
(أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدقه لنصدقه ، روي أنهم قالوا : اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولا فنزلت ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلَّا من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام : لا أقدر على ذلك فنزلت ، وقيل : القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي ، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة ، ومحل (أَنْ يَقُولُوا) نصب أو جر وكان الأصل كراهة أو مخافة (أَنْ يَقُولُوا) أو لئلا أو لأن أو بأن يقولوا ، ولوقوع القول قالوا : إن المضارع بمعنى الماضي ، و (أَنْ) المصدرية خارجة عن مقتضاها ، ورجحوا تقدير