وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية ، ومما يقتضى منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه : إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل ، وكذا قوله سبحانه : (أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) مشكل أيضا إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله ، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن ، وأضيف إليه عزوجل لأنه مخلوق له تعالى ، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) [المائدة : ١٠٦] حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها ، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه ، فعبر بالمدلول عن الدليل ، والتقدير (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ) مصحوبا بانتشار علم الأحكام ، وهي الأدلة ، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى انتهى ، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر ، ولعله كما قيل : من شدة الظهور الخفاء (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما أنتم فيه من الشرك ، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا ، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد ، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع ، ولهذا جيء بالفاء ، وفي التعبير ـ بمسلمون ـ دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قيل بها من وجوبه بلا مهلة ، قيل : وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعزّ سلطانه ، وجوز أن يكون الضمير في (لَكُمْ) للرسول صلىاللهعليهوسلم ، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) [القصص : ٥٠] ، وروي ذلك عن مجاهد ، وكان المناسب للأمر بقل الافراد لكنه جمع للتعظيم ، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي ، ومن ذلك :
وإن شئت حرمت النساء سواكم
والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] وعبر بالاستجابة إيماء إلى أنه صلىاللهعليهوسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه ، ويجوز أن يكون الضمير له صلىاللهعليهوسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلىاللهعليهوسلم في الأمر بالتحدي ، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد ؛ وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان ، ولذلك رتب عليه ما ترتب.
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة ، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة ، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك ، ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى (مُسْلِمُونَ) مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه ، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين ، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي وغيره ، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) وأشد بما يعقبه ، وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا ، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى ، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول.