الإيثار عند الحاجة إليه (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) وهو ما لا يعلمونه من أنفسهم (وَنَجْواهُمْ) أي ما يعلمونه منها دون الناس ، وقيل : السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى الحزن سهلا والشدائد لذائذ في ذلك ، ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد ، ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد حرا ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) فأفنوا كل ذلك في طلب مولاهم جل جلاله (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) المشاهدات والمكاشفات والقربات (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالبغية.
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) أي الذين أضعفهم حمل المحبة (وَلا عَلَى الْمَرْضى) بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم بحرارة الفكر وشدائد الرياضة (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) وهم المتجردون من الأكوان (حَرَجٌ) إثم في التخلف عن الجهاد الأصغر (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن أرشدوا الخلق إلى الحق (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) غرامة وخسرانا ، قيل : كل من يرى الملك لنفسه يكون ما ينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عنده يكون ما ينفق غنما عنده (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) أي الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) وهم الذين هجروا مواطن النفس (وَالْأَنْصارِ) وهم الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) في الاتصاف بصفات الحق (بِإِحْسانٍ) أي بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما أعطاهم من عنايته وتوفيقه (وَرَضُوا عَنْهُ) بقبول ما أمر به سبحانه وبذل أموالهم ومهجهم في سبيله عز شأنه (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) من جنات الأفعال والصفات (تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) وهي أنهار علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب وبقي منهم فيهم نور الاستعداد ولهذا لانت شكيمتهم واعترفوا بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب واستولت عليه الظلمة فلا يرى ما يفعل من القبائح إلا حسنا (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا تنقاد له تارة وتعمل أعمالا صالحة وذلك إذا استولى القلب عليها وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالا سيئة إذا احتجبت عنه بظلمتها وهي دائما بين هذا وذاك حتى يقوى اتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات ، ولعل قوله سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى ذلك وقد تتراكم عليها الهيئات المظلمة فترجع القهقرى ويزول استعدادها وتحجب عن أنوار القلب وتهوي إلى سجين الطبيعة فتهلك مع الهالكين ، وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم فكانت منهم ، وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين واختلطت بهم فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله تعالى من ذلك ، ولله در من قال :
عليك بأرباب الصدور فمن غدا |
|
مضافا لأرباب الصدور تصدرا |
وإياك أن ترضى صحابة ناقص |
|
فتنحط قدرا عن علاك وتحقرا |
فرفع أبو من ثم خفض مزمل |
|
يبين قولي مغريا ومحذرا |
وقد يكون ترجح جانب الاتصال بأسباب أخر كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً